أظهرت الاستطلاعات التي أجرتها مؤسسات الرأي في الولايات المتحدة تراجع شعبية الرئيس باراك أوباما ست نقاط قياسا بما كانت عليه في الشهر الماضي. تراجع شعبية أوباما لم تتجاوز الخط الأحمر فهو لا يزال يتمتع بغالبية نسبية تفوق 50 في المئة بدرجات. ولكن مجرد حصول انفكاك من حوله في فترة ستة شهور يشكل خطوة سلبية في مشروع التغيير الذي وعد أوباما الشعب الأميركي به. فالتراجع قياسي في سرعته ويكشف عن بدء نمو قوة اعتراضية على نهجه. وفي حال تواصل الانفكاك عنه بالنسبة نفسها في الشهور الستة المقبلة سيواجه أوباما أزمة حقيقية في تعامله مع الجمهور الانتخابي وإدارة البيت الأبيض.
حتى الآن لا يزال الرئيس الأميركي يعتمد على رصيده الشعبي في مقاومة ضغوط اللوبيات وتلك الحملات المتتالية التي تقودها بقايا رموز «تيار المحافظين الجدد» في الشارع والمؤسسات. وتآكل رصيد أوباما مع الأيام يسرع من استمرار العد التنازلي ويعطل عليه لاحقا التحرك بحرية ويزيد من القيود الرسمية التي تمنعه من اتخاذ قرارات حاسمة في مجالات مختلفة.
العد التنازلي بدأ حتى لو لم يصل بعد إلى منطقة الخطر. ولكن مجرد حصول تآكل في الرصيد المجمع من الفائض الشعبي الذي ناله خلال فترة معركة الانتخابات سيؤدي إلى نمو مراكز قوى في الإدارة تقطع عليه اعتماد سياسة مستقلة عن المؤسسات الثابتة وما تمثله من مصالح وشبكة علاقات تتحكم بمفاصلها لوبيات الشركات الاحتكارية.
تراجع أسهم أوباما في سرعة قياسية ليست مسألة تفصيلية في حكم رئيس بدأ عهده بشعبية جارفة وبوعود التغيير. فالرئيس أوباما يختلف عن غيره من رؤساء لأنه جاء في سياق مستقل نسبيا عن اللعبة التقليدية المتعارف عليها. والمفاجأة التي اخترقت كل التوقعات وفرضت نفسها على آليات الاختيار ارتكزت أساسا على الجمهور الانتخابي والشارع الأميركي الملون بالأعراق والثقافات والديانات والأمزجة. فوز أوباما يقارب الانقلاب السلمي في المزاج الشعبي. وجاء الانقلاب ليفرض شروطه ويمنع تعطيله إلى أن تحول الاختيار إلى أمر واقع يصعب على المؤسسات واللوبيات مقاومته أو التلاعب به.
لذلك يشكل الشارع قوة ترجيحية في عهد الرئيس أوباما تعزز ثقته بنفسه وقدراته في حال قرر اتخاذ خطوات حاسمة في اتجاه التغيير. ودخول عهد أوباما في مرحلة العد التنازلي في أسهمه سيكون له وقعه الكبير قياسا بغيره نظرا لاختلاف ولايته عن الرؤساء السابقين. فمن سبقه دخل البيت الأبيض بغالبية شعبية منظمة اعتمدت على الأجهزة والمؤسسات واللوبيات لضخ أصواتها لمرشحها المفضل. بينما أوباما دخل البيت في حسابات غير تقليدية ومغايرة للصورة النمطية وهذا ما أعطى أفضلية لدور الشعبية العفوية في ترجيح كفته واختياره.
العد التنازلي في شعبية أوباما لابد من إعادة قراءة حيثياتها حتى يمكن الاطلاع على الأسباب التي ساهمت في تراجعه وانفكاك بعض الأطراف الداعمة له عن تأييده.
إعادة القراءة تؤشر إلى عاملين: الأول داخلي يتعلق بالاقتصاد والثاني خارجي يتعلق بالسياسة الدولية. وتعاضد العاملين في الشهور الماضية أفسح المجال لقوى «تيار المحافظين الجدد» المدعومة من اللوبيات بتنظيم حملة مركزة لتشويه السمعة واتهام أوباما بالضعف والحذر والتردد والتفريط بمصالح أميركا وعدم اقتناص الفرص أو تحقيق اختراق جدي في ملف داخلي أو خارجي يرفع من مكانة الولايات المتحدة ودورها المتراجع.
عدم النجاح لا يعني الفشل المطلق ولكنه فتح ثغرة في جدار أوباما الشعبي وأعطى فرصة للقوى المضادة بالهجوم على قيادته وإدارته. من جهة الداخل لا تزال رئاسة أوباما تعاني من ارتدادات الأزمة المالية حتى لو توقفت حركة الأسواق عن الانهيار الدائم. فالأزمة كانت قوية وكافية لأحداث نوع من الجمود وتوسيع رقعة البطالة والأفلاسات ورفع درجة الديون ونسبة العجز في المبادلات التجارية وموازنة المدفوعات خلال الحقبة التي تولى الحزب الديمقراطي مقاليد السلطة.
من جهة الخارج لا تزال إدارة أوباما تعاني من ضعف في السيطرة على الأزمات الدولية على رغم خطابات المصالحة (الراقية ثقافيا) التي لاقت الترحيب في أنقرة والقاهرة وموسكو وغانا. ولكن الجانب السياسي من المشكلات لا يزال يراوح مكانه وخصوصا في الملفات الخمسة التي حاول تفكيكها. ملف القوفاز وأوروبا الشرقية نجح في تجميده ولم يحقق الاختراق المطلوب لاحتواء تداعياته في المستقبل المنظور. ملف العراق انتقل إلى التموضع كما نصت اتفاقية أمنية تم توقيعها في العهد السابق ولم يضف عليها أوباما خصوصية جديدة. ملف أفغانستان دخل في طور مغامرة عسكرية غير مضمونة النتائج ويحتمل أن تؤدي إلى انزلاق في شبكة من المتاهات في منطقة شديدة التعقيد في خطوطها العنكبوتية.
ملف إيران النووي لا يزال يراوح مكانه بين العصا والجزرة ولم ينجح أوباما في تقديم إضافة نوعيه سوى تكرار دعوات الحوار المفتوح وجها لوجه من دون تقديم آليات واضحة تحدد برنامج «اليد الممدودة» وما يشتمله من توصيات وتقديمات وتوكيلات.
يبقى الملف الأهم والأخطر بالنسبة للمنطقة العربية يتركز على الموضوع الفلسطيني ومسألة الدولتين وتجميد المستوطنات. هذا الملف يعتبر نقطة اختبار لعهد أوباما وساحة امتحان لتجربة قدراته واختياراته. ففي هذه المساحة تتقاطع اللوبيات في واشنطن من كل الجهات لتشكل نقطة ضغط في دائرة صراع الإرادات بين الإدارة الأميركية والثنائي المتطرف نتنياهو - ليبرمان. حتى الآن تبدو المعركة غير واضحة المعالم ولكنها أخذت تميل تدريجيا لمصلحة الثنائي الإسرائيلي في حال تم احتساب الضربات الترجيحية التي سددها نتنياهو - ليبرمان في موضوع يهودية الدولة والموافقة على بناء وحدات جديدة بذريعة استيعاب النمو الطبيعي السكاني وصولا إلى البدء في إزالة اللغة العربية من إشارات المرور واليافطات في الأراضي المحتلة في العام 1948.
تراجع أوباما عن مخططه مقابل تصاعد مطالب الثنائي في الجهة المضادة يؤسسان خطوة سلبية باتجاه الإطاحة بفكرة الدولتين وربما تهديد الهوية العربية في أراضي 1948. والنموذج الفلسطيني في حال تطور في الجانب السلبي سيؤدي في النهاية إلى تشكيل سابقة تعطل على أوباما السير في مشروع التغيير وما أثاره من تعهدات خلال فترة التنافس على الرئاسة الأميركية. العثرة الفلسطينية ليست بسيطة لأنها تفتح ثغرة في سياسة أوباما الدولية و«الشرق أوسطية» وتعطي ذريعة للتطرف بالعودة إلى النمو في العديد من المناطق وتحديدا في نقاط الضعف التي عانى منها سلفه جورج بوش.
العد التنازلي في شعبية أوباما الذي أشارت إليه مراكز الاستطلاع مقارنة بالشهر الماضي خطوة غير مريحة لأن الرئيس الحالي يعتمد في سياسته على تأييد الشارع وسمعته لمواجهة ضغوط اللوبيات. وإذا خسر أوباما مصادر قوته لترتيب البيت من الداخل وتحصينه في مواجهة الخارج سيبدأ العد التنازلي يأكل رصيده بسرعة قياسية، تفوق من سبقه من رؤساء الولايات المتحدة، نتيجة اختلاف الصورة النمطية التي دخل بسببها وعلى أساسها البيت الأبيض.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2505 - الأربعاء 15 يوليو 2009م الموافق 22 رجب 1430هـ