كانت الأيام الماضية أياما صعبة، تنقلت من مجلس عزاء إلى جنازة إلى اجتماع للتأبين، واعتادت عيني على اللون الأسود الذي لا أرتديه في هذه المناسبات (بعكس المألوف).
رأيته منذ أيام في الجامعة، لاحظت شحوبه لكن ابتسامته غطت على حالته الصحية الواضحة للعيان، كان يشكو من مرض في الكبد فانخفض وزنه، ودخل في دورة من المعاناة.
قابله مجموعة من الزملاء قبل وفاته بيوم، وفي المساء ودع هذا العالم.
لم أندهش، فالموت لا يمنحنا مهلة ولا يطرق الأبواب، لكن الذي لفتني دهشة الآخرين.
كالعادة انهار البعض صارخا «لقد كان معي بالأمس»... وبكى آخرون لأنهم لم يتوقعوا أن يفقدوه ولو علموا لودعوه، وكان أرق ما سمعت من زميل: «لو علمت أنه سيموت لأخبرته كم كنت أحبه وأحترمه... كثيرا».
مضى... ومات... وترك وراءه دموعا... وذكريات.
ما لبث الموت أن اختطف صديقا آخر، بلغني الخبر بعد وفاته بساعة، وأدركت الجنازة قبل أن يوارى جسده الثرى.
خرج النعش أمامي إلى السيارة التي ستحمله لمرقده الأخير، ما أعظمها من عبرة، ها هو الجسد محمول فوق الأعناق لا حول له ولا قوة... لن يصحبه إلى مستقره زوجة ولا ولد... يعيش الإنسان بين الناس، يحدث أكبر قدر من الضجيج، يلهث وراء المال والجاه، لكنه يموت في النهاية... ويمضي وحده، ليرقد في التراب، تاركا وراءه كل شيء.
صورة الجسد في الصندوق الذي ينقله أهل الميت وهو يتأرجح بين الأيدي بلا حول ولا قوة للراقد فيه في طريقه للمقابر عظة وعبرة لمن يعتبر.
في المساء التالي كان التأبين لأستاذ رحل منذ عام. القاعة الكبيرة ضمت ألوان الطيف السياسي المتنوعة، وتتابعت الكلمات التي تمدح الراحل بخير الأوصاف وأطيب الكلام والشعر.
بدا وكأنه حاضر معنا، تعجبت من قوة الفعل وأثر الحضور الذي يتركه الإنسان خلفه، قد يمتد أثره لأعوام وقد يمتد لقرون.
بين الضلوع طاقة هائلة يمكنها أن تغير الكون، البعض يولد ويموت ولم تكتشف منابعها، والبعض يوظفها لتغيير مجتمع، أو تدمير أمة. لذا ففي التاريخ عظماء، بعضهم أحسن، وكثير منهم أساء... وبقيت الذكرى: بعضها طيب وكثير منها سيئ.
وليس البشر هم الذين يموتون فقط، بل قد تغدو العلاقات ميتة. الزواج قد يموت بالسكتة القلبية.
بعدها بيوم جاءتني صديقة تشكو، سنوات زواجها كانت فيه تعاشر ميتا، لا عواطف، لا مشاعر، لا تفاهم. سيل من الشتائم والإهانات وصل للضرب بالحذاء أمام الأطفال، وتهديد طول الوقت بأن يلقيها وأبناءها في الشارع.
مسكينة. هذه امرأة تعيش مع رجل ميت.
هذا رجل ميت المشاعر، ميت الأحاسيس، ميت الرجولة، ميت العقل.
هذا لون من الموت حتى لو كان يتنفس ويصدر من الضجيج ما يصم الآذان.
وقد تموت القلوب... ترى القسوة ولا تتألم، وتمر بالتجارب ولا تتعلم، تموت وتدفن في الصدور، فيتحرك الإنسان وقد فقد قلبه، وبعضهم حين يفقد قلبه... يفقد عقله.
وقد تموت الشعوب... تعتاد الظلم والاستبداد فيغزوها الخنوع وتستمريء الانحطاط والانبطاح. فإذا ما جاءها من يحاول أن ينقذها أنكرت عليه وتعجبت لحاله، لم هو قرر أن يفكر ويناطح، وقد تنبذه، وقد تقتله كي يصمت للأبد، وقد ينتدب رجل نفسه فيغدو «أمة»، شهيد حي... على شعب ميت.
ما هو الموت؟
أمر صعب أن نقدم تعريفا للموت. فهو ليس الفناء، بل فناء الجسد... في حين تحيا الروح في عالم آخر.
وقد تفنى أمم وهي تعيش كالأشباح على رقعة العالم، تستهلك ولا تنتج، غثاء كغثاء السيل.
والموت يسكن الحياة، ألم يقل الله تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى»... فالنوم موت أصغر، تجربة أن «نذهب»... ثم «نعود»، والبعض لا يرجع.
لكن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
هذا من آياته.
قد نفقد الأمل في شخص فيتحول من النقيض للنقيض، يفيق وعيه ويصحو قلبه وتبعث روحه الإنسانية من جديد.
لا يغلق الله أبواب الرحمة ولا أبواب التوبة.
وقد تصحو أمة بعد موتها، وقد يتم إحياء لغة بعد اندثارها، وتعود قومية بعد تشتت أهلها لتتوحد.
وقد يستفيق الوعي بعد أن دُفن وانطمس تحت ركام التواريخ... وقد تبعث الحياة في تاريخ مات فيعود ويقود.
دروس الموت تعلمنا كيف نعيد النظر في مسارات الحياة.
ودروب الحياة تدلنا على أن الموت أقرب لنا من نعالنا.
وكفى بالموت واعظا... وبدروس الحياة مُعلما.
يستدعي الموت عالم الغيب إلى مشهد الحياة، كي نرى... أبعد.
وسبحان الحي الذي لا يموت.
صاحب الملك... والملكوت.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2503 - الإثنين 13 يوليو 2009م الموافق 20 رجب 1430هـ
الموت جعلني اموت
ابغى اموت