شاء القدر أن ينقلب السحر على الساحر. فقبل نحو عشرين عاما، عملت الولايات المتحدة الأميركية على توفير الدعم العسكري للرئيس العراقي صدام حسين كي يقف ندا بوجه إيران منعا لانتشار الثورة الإسلامية التي أعلنها آية الله الخميني في أنحاء المنطقة. ثم عقب هذا الموقف، قيام القوة العظمى بحربين ضد نظام صدام حسين قادت الأولى إلى إعادة العراق الى العصر الحجري والثانية إلى الإطاحة بصدام حسين، والآن كتب على الأميركيين أن يعضوا على أصابعهم خوفا من مسعى ورثة الخميني الى استخدام نفوذهم من أجل قيام دولة إسلامية على أرض العراق مشابهة للنموذج الإيراني.
ورد وزير خارجية طهران كمال خرازي على التحذيرات التي وجهتها واشنطن الى بلاده بعدم التدخل في الشئون الداخلية للعراق واستغلال حال الفوضى القائمة التي قامت بعد انهيار نظام صدام حسين، كذلك بسبب خطأ حسابات الأميركيين الذين راهنوا في خطة الإطاحة بالنظام، على قادة المجلس الوطني العراقي المعارض وخصوصا رئيسه أحمد جلبي إذ لا يجد جلبي قبولا عند غالبية العراقيين. وقال خرازي انه من المؤسف أن توجه الولايات المتحدة اتهامات الى إيران بمحاولة التدخل في الشئون الداخلية للعراق بينما هي تحتل أراضيه. وأضاف خرازي قائلا: من البديهي أن الشيعة يشكلون غالبية السكان في العراق لكننا لا نميز بين الشيعة والسنة والتركمانيين والعرب وكل مواطن عراقي له الحق في أن يمارس حقه الديمقراطي في بلده.
وقالت واشنطن في الأسبوع الماضي انها لاحظت وجود ما يؤكد شكوكها بشأن محاولات التدخل الإيرانية، فقد صرح المتحدث باسم البيت الأبيض آري فلايشر بأن هناك تقارير تحدثت عن انتشار عملاء أجهزة إيرانية في أوساط العراقيين الشيعة في جنوب العراق للتأثير عليهم ودفعهم إلى الدعوة لانسحاب قوات الاحتلال الأميركية والبريطانية والمطالبة بقيام دولة إسلامية. من جهة أخرى أوضح متحدث باسم القيادة العسكرية المركزية في منطقة الخليج أن وحدات المارينز تعمل على مراقبة مناطق حدودية مع إيران في شمال شرق العراق، منعا لتسلل عملاء إيرانيين إلى الأراضي العراقية. ووصفت إيران هذه التصريحات بأنها ترمي إلى خدمة الدعاية الإعلامية المحرضة ضد إيران. وكانت الحكومة الإيرانية قد قامت بخطوة غرضها قطع الطريق على الحملة الأميركية المناهضة لها حين طلبت من رعاياها عدم السفر إلى مدينتي النجف وكربلاء للمشاركة في تأدية الشعائر الدينية كي لا تحصل واشنطن على ذريعة تستخدمها في حملتها ضد إيران، ورجت الحكومة الإيرانية الحجيج الإيرانيين انتظار استتباب الأوضاع في العراق لزيارة الأماكن المقدسة.
وقد سجل الأميركيون بقلق، التصريحات التي أدلى بها رجال دين شيعة عراقيون لمحوا فيها بصورة غير مباشرة إلى رغبتهم في قيام دولة إسلامية على أرض العراق لكن ليس بالضرورة على نمط الجمهورية الإسلامية في إيران. وينتظر أن يلعب رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق آية الله محمد باقر الحكيم دورا بارزا عند تشكيل نظام جديد وتعول عليه إيران التي قدمت اليه المأوى والدعم منذ أن لجأ إلى أراضيها في العام 1980 إذ أمضى السنوات الطويلة يدعو الى معارضة بغداد كما أنشأ ميليشيا (قوات بدر) التي يبلغ عدد مقاتليها نحو خمسة عشر ألفا يعملون تحت إمرة عبدالعزيز الحكيم شقيق رئيس المجلس الأعلى والمتحدث باسمه. ومع عودة باقر الحكيم إلى العراق ترتسم أمام الغرب بصورة خاصة ذكريات عودة الخميني من باريس إلى طهران بعد الإطاحة بنظام الشاه رضا بهلوي في العام 1979 وهي العودة التي مهدت لقيام جمهورية إسلامية.
وقد قدم شيعة العراق الدليل على عزمهم على إدارة أمورهم بمعزل عن الولايات المتحدة ونجحوا في تنظيم مسيرات دينية إلى الأماكن المقدسة في مدينتي النجف وكربلاء من دون وقوع أعمال عنف وشغب كما نظموا عودة مجموعة من المسروقات الى أصحابها بعد انتشار عمليات النهب التي شملت المباني الحكومية ومساكن أركان النظام السابق وعدد من المستشفيات والمحلات التجارية بالإضافة إلى تنظيم حملة لتوزيع المؤن الغذائية على المحتاجين. فيما يلتزم الأميركيون الصمت حيال النفوذ الواضح للشيعة في العراق ويقولون انهم يتعاونون مع القادة الدينيين إلا أن تصريحات المسئولين الأميركيين الحادة الموجهة الى إيران تكشف عن عدم شعورهم بالارتياح. ونقلت صحيفة (واشنطن بوست) عن مسئول في الإدارة الأميركية اعترافه بأن الحكومة الأميركية أخطأت في تقديرها لدور الشيعة في العراق ولم تأخذ في حساباتها احتمالات قيام حكومة إسلامية عراقية تكن الضغينة للولايات المتحدة.
الواضح أن الاستراتيجيين في واشنطن أخطأوا الحساب أيضا حين رسموا خطة تغيير النظام، والمؤكد أن موقف جلبي تعرض لضعف كبير بسبب التقارير التي كشفت عن ماضيه عدا أنه فشل خلال السنوات الماضية في بناء شبكة اتصالات مع الشعب العراقي في الداخل، وكثيرون هم الذين يعتبرونه الذراع الطويلة للسي آي إيه وخصوصا أن النزعة القومية التي يشتهر بها العراقيون لا توفر لجلبي التأييد الشعبي الذي يرجح كفة الفوز في انتخابات حرة إذا نافسه عليها زعماء محليون. كما لم يكن بحساب الأميركيين أن يستمر الفراغ السياسي طويلا بعد انهيار نظام صدام. على العكس من الأكراد لم يدخل الشيعة طرفا في الحرب لكنهم لن يضيعوا الفرصة المتاحة بحصولهم على أكبر نفوذ وستكون مهمتهم أكثر سهولة إذا عملت الولايات المتحدة فعلا في إجراء انتخابات حرة، إذ انهم يشكلون نسبة 60 في المئة من الشعب. وعبر شيعة العراق عن انضباطهم من خلال مسيرات النجف وكربلاء إذ عبروا عن ثقلهم السياسي الذي اكتسبوه بفعل الحرب.
وعبر الرئيس الإيراني محمد خاتمي عن موقف بلاده تجاه التطورات في العراق بقوله: إننا نتمنى لأشقائنا العراقيين أن ينعموا بالديمقراطية والحرية على أساس صوت واحد لكل مواطن عراقي. إذا تحقق أمل خاتمي فسيفوز الشيعة بالغالبية وسيقود فوزهم إلى قيام دولة مقربة من إيران. الرد الأميركي على هذا جاء على لسان وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد: إننا لم نأت إلى المنطقة كي تنشأ دولة إسلامية جديدة على النمط الإيراني واننا لن نسمح بقيامها
العدد 250 - الثلثاء 13 مايو 2003م الموافق 11 ربيع الاول 1424هـ