تتسم فضاءات الأمة بالزخم والازدحام بالعديد من القضايا، فالجغرافيا والتاريخ، والذات والعالم تتقاطع مساراتها وشجونها في العقل المسلم بما يتيح له الإبداع حينا، ويثقل كاهل فكره حينا آخر.
وتتابعت الكثير من الأمور الفكرية على الساحة في الأشهر الأخيرة من العام الميلادي المنصرم وخلال النصف الأول من هذا العام، إما باستمرار الاجتهاد فيها أو بتحول الشواغل وأولويات التفكيرمن ملف لملف، أو بصعود قضية ما في مجال حضاري فرعي من مجالات الأمة، وتراجعها في آخر. وبنظرة سريعة يمكن القول إن القضايا الأربع الأساسية التي شغلت الساحة الفكرية هي قضايا التجديد، واستخدام القوة، والتقريب بين المذاهب، والحوار بين الأديان.
فإذا بدأنا بحال التجديد نجد أن هناك قرقعة ولا جديد، مؤتمرات تنعقد وكتابات تنشر، لكن لم تحدث نقلة نوعية يشعر بها المتابع للساحة، أو يلمسها الساكن في عالم المسلمين المضطرب بالأزمات لكن حال تجديده... ساكن.
فشعارات التجديد تسد الأفق بلغط كثير غالبيته حكومي الهوى، تردده منصات تحارب التجديد وأهله في الواقع المشهود، وتنيم العقل كي لا يفكر كثيرا ثم ينتقل - ربما - من التفكير... للاحتجاج.
وكما يتم القبض على رموز فكرية أو سياسية في بلدان كثيرة من دون جريمة قبضا احترازيا يتم وأد بعض الأفكار وأدا احتياطيا، أو قتلها دون رحمة برصاص الاتهام والتخوين والتكفير كي لا تلقى أذنا واعية أو يقلب بها عقل رشيد. فعل التجديد الحقيقي في مقبل ضجيج الكلام فتقوم عليه ثلة من الآخرين يتبعثرون على ثغور عديدة منها الفقهي والعلمي والفلسفي، لكن يعانون من قلة الموارد وضعف الإمكانات، ويتم شغل أصحاب العقول في شتى المجالات بالفرعي من الأمور أو بلقمة العيش التي تصرف العقل عن تلمس الحكمة وإبداع الأفكار، وتذل أحيانا أعناق الرجال فيقتلوا الفكرة التي تنتسب لهم بأيديهم.
والتجديد ليس أفكارا متناثرة يغزلها عقل مبدع، بل هو صناعة ثقيلة هي صناعة العقل المجدد في كل العلوم، لذلك فإن التجديد ليس دعوى تطلق في المؤتمرات السنوية التي ما فتئت تتحدث عنه حتى صار كالمهدي المنتظر في غيبته ننتظر فرجه من دون أن ندرك أن الانعتاق يتأتى بولاية كل فقيه في مجاله وتضافر الجهود لتفتح سراديب التخلف وتخرج الأمة لعالميتها الثانية بفعل الإنسان وصحوة العقل لا بانتظار «جودو» التجديد الذي ننتظر ظهوره كفلق الصبح غير مدركين بأن الفجر يتنفس بخيوط نور تتراكم حتى ينجلي الظلام الدامس.
وواقع الأمة يدلنا على أن هناك قوى ممانعة ضد التجديد، هي تلك المؤسسات بعينها التي يجب أن تقود التجديد لكنها تكلست حتى صارت منصات إعادة إنتاج للفكر أو دوائر للارتزاق السياسي والاقتصادي، وهو ما نلمسه على الساحة. مؤتمرات التجديد وبرامج التفنيد، ينفق عليها الملايين لتشغل وقت المفكرين والفقهاء، فتعوق تواصل الجهد البحثي، وتجمع الكبار دون أن تتيح مساحة للعقول الشابة، وتجتر ذات القضايا دون أن تبحث في الشواغل الحقيقية التي يمكن أن تغير نوعية حياة الناس وتحقق مقصود الشرع من عدالة وحرية. يمكننا إذا الحديث عن تجديد عكسي ينقض كل فكرة أو رأي جديد بوضعها في خانة الخصوصية التي لا تقبل التعميم أو العمومية التي لا تقبل التطبيق. ولا شك أن جهودا ضخمة تبذل لكنها خارج السرب، والتغريد خارج السرب ثمنه باهظ، ومحصوله قيد التفعيل، يحتاج الجهد والمال لنشره وتعميم فوائده وبيان حجته للناس وإرشادهم إلى كيفية تغيير نمط الحياة ليثمر التجديد ثماره في الواقع ولا يظل حبيس الأوراق دون قدرة على تغيير الواقع الذي تحكمه التقاليد أو يهيمن عليه من بيده السلطة والمقاليد، أو تحاربه نخب المنتفعين من استيراد الجديد دون استنبات لعقل رشيد يرفع لواء الاجتهاد والتجديد.
والحق أن هناك قضايا ملحة في عالم المسلمين اليوم وفي العالم بأسره لا ينطبق على التعامل معها منطق التجديد، ومن هنا لزوم اقتران التجديد بالاجتهاد، فالتجديد نفض غبار عن أفكار وتفعيلها، لكن الاجتهاد هو التعامل مع مستجدات غير مسبوقة وتقويمها لصالح الإنسان بما يحقق نفعه العاجل ولا يجور على مصلحته الآجلة، ومن هنا حاجة الفقيه والمفكر والفيلسوف والسياسي إلى معرفة النسق الحاكم للتصور الإسلامي لتحرير مناط القضايا وتلمس خرائط حلال العصر وحرامه، وهو أمر يستلزم اجتهادا جماعيا ضخما، وهو ما يستدعي وجود مؤسسات، والتشبيك بين العلماء، وتطوير العقلية الموسوعية والنظر النقدي في إعداد المفكر والفقه والعالم في شتى فروع العلم، في تكامل وتناغم يحقق للعلم دوره في أن يكون نافعا.
وتثور هنا إشكالية هي الفجوة الجيلية وهيمنة الجيل الأكبر في شتى المجالات على موارد المعرفة، ومصارفها. حتى أن المرء يسأل نفسه أحيانا: متى سيعتزل هذا الفقيه أو ذاك ؟ فنظرة سريعة على النخب المتصدرة للحديث عن التجديد في كل العلوم - أصولا وفروعا - تدلنا على أن الدفة في يد الكبار، من دون وعي بحدود قدرة العقل الفردي على الإحاطة بالمستجدات مع تقدم العمر، وضرورة البحث في كل كتيبة فكرية عن أسامة بن زيد.
أيضا يلاحظ المرء أن سقوف التفكير كثيرة، منها سقف التقاليد العلمية التي ألفها الناس فلم يعودوا قادرين على قبول تغييرها، وسقف السوق الرأسمالية التي نشرت ثقافة أكبر إنتاج في أقل وقت، والتجديد يحتاج تفرغ وطول بحث وتدقيق وتعميق وهو ما لا يتوافر في ظل القيود الأكاديمية من حيث الزمن والتمويل التي لا تتيح إلا جهودا تجديدية وإبداعية محدودة المجال والأثر.
وأمر أخير هو هل العقل المجدد ينشأ بالعزلة والتفكير أم التفاعل والتأثير، فزاد العقل هي الأسئلة التي تستفز طاقته الاجتهادية أو الإبداعية، وهذا التحفيز هو ما يكفل الاستمرار للوعي الاجتهادي، وهو أمر يستلزم ربط المجالات العلمية بالواقع، وهذا هو أساس فكرة المشروع الحضاري، فالتجديد ليس رتقا لخرق، بل هو بناء لسفينة نجاة هي سفينة النهضة التي لا مفر أن تجمع الناس من كل مجال كي ينجحوا في النجاة في عصر طوفان المعارف واجتياح القوة العسكرية والهيمنة لمنطق العقل والإنسانية المشتركة والاستخلاف والتعرف.
من هنا فلا يمكننا الفصل بين التجديد والديمقراطية، لأن الديمقراطية تتيح هذا المجال العام الذي يحتفي بالأسئلة والمراجعات، ويضمن الاستجابة للقضايا الأكثر إلحاحا والأشمل جدوى.
ينقلنا هذا إلى ملف من أهم ملفاتنا وهو ملف الاتهام بالإرهاب وتعميمه على كل قوى المعارضة والمقاومة، وهو ما جعل البعض ينظر لجدل المراجعات التي قامت بها التيارات السياسية الإسلامية التي تبنت القوة سبيلا للتغيير باعتباره جهدا تجديديا، أم ترى هي محض تراجعات تحت وطأة السجن وبطش الدولة. من هنا فإن الصورة لا تكتمل إلا بنظرة على مراجعات الدولة ذاتها على الضفة الأخرى في تصورها لدورها وعلاقتها بالقوى المعرضة وأجندة القضايا التي تقدمها كموضوع للتنازع. الثابت أن الدولة في عالمنا العربي لا تراجع نفسها ولا تصوب مسارها وتعيد إنتاج منظومة البطش والملاحقة العام تلو العام حتى ضد القوى الأكثر اعتدالا التي قبلت المشاركة الديمقراطية وما زال حضورها.
وفي ظل صراع الفرقاء يغيب ملف التمدن والنهضة، فالمراجعات اكتفت بالبحث في ملف الفتنة والطاعة وحقن الدماء، لكن خطابها بقي دون تجديد في المفاهيم أو العناوين أو المضامين، من هنا فإن الحرية تعود لتسود على المشهد، سيادة غياب لا سيادة حضور، فما زالت الحرية ومشاركة القوى المتعددة في المجال العام - وليس الإعلامي التأجيجي - غائبة، ولم يتم حل الصراع الاجتماعي والطبقي الذي أفرزها والذي تسربل في هذا المجال بخطاب ديني لكنه في جوهره صراع الملأ... والناس، ويقيني أنه كلما اتسع فضاء المشاركة قلَّ حيز الغلو.
يحتاج أمر المراجعات السياسية إلى تقريب مسافات وتجسير فجوات، لكن معنى التقريب ذاته في أزمة، وخلق العداوات وصنع الأزمات صار طريقة إدارة الخلاف السياسي والاجتماعي، يسري هذا على علاقة الدولة بالإسلاميين بأطيافهم المتنوعة، كما يسري على العلاقة بين المذاهب، وأيضا على الحوار بين الأديان.
فقد شهدت الشهور الماضية اندلاع أزمات واحتقانات بين الشيعة والسنة على المستوى الفكري والسياسي، في حين حظيت جهود التقريب بين الأديان لكنها بقيت نخبوية، وفي مقابل هذا نجد تضييقا على المبادرات المجتمعية للتعايش بين الأديان والمذاهب وملاحقة لجهود الوساطة والتقريب. ولا شك أن وضع الأقليات المذهبية والدينية يحتاج نظرة فاحصة، فهناك إذكاء للتمييز في بلدان عربية وإسلامية، تستغلها القوى الأجنبية في الضغط السياسي، لذا فإن جهود التقريب يجب أن تتوازى مع حركة حقوقية لتأكيد حقوق المواطنة والمساواة أمام القانون.
إن كثيرا من الأزمات الكاشفة توضح هشاشة أرضية تقريب المذاهب وحوار الأديان، وتمثل لحظات تاريخية فارقة يتم فيها إنهاك قوى الأمة بعيدا عن صراعها الحقيقي مع الاستكبار والطواغيت الذين يقتلون المدنيين من فلسطين إلى أفغانستان دونما محاسبة أو عقاب.
لذا فإن تطوير جهود حوار المذاهب والأديان ووضعها على مسار مناهضة العولمة وترويض الرأسمالية يجب ألا تنفصل أو تنفصم عراها لأنها قضايا متشابكة ومعقدة.
في هذا الزخم من القضايا تظل الأمة في التحليل الأخير تعاني من فقر في القيادات الفكرية والسياسية، وهو ما يؤدي لتنامي قوة وتأثير رموز بعينها على كل ساحة، لذا فكما نطالب بالديمقراطية على المستوى السياسي والدولي نحتاج لتكريس التعددية والتنوع على مستوى رموز الأمة في كل مجال، كي نثري عالم الأفكار ونطور عالم المؤسسات وننهض بعالم الأشخاص وندير دفة عالم الأحداث بدلا من أن نظل في دائرة رد الفعل ومواجهة الأزمات.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2497 - الثلثاء 07 يوليو 2009م الموافق 14 رجب 1430هـ