من كان يصدق أن النظام البولشفي الماركسي سوف يسقط ويتفكك الاتحاد السوفياتي بالشكل الذي رأيناه، ومن كان يصدق أننا سوف نعيش ونرى انهيار جدار برلين وهو الجدار الذي أحدث هذا الشرخ في ألمانيا عند نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى مدى أكثر من خمسة عقود.
وأبعد من هذا وذاك كم كنا نستهجن عند قراءتنا للتاريخ الفرنسي، ولحقبة الثورة الفرنسية على وجه الخصوص، أن يتم قطع رأس أب الثورة الفرنسية ماكسيميليان روبسبيار على حبل المشنقة، وبموجب حكم صادر عن الثوريين بالذات، والذين رافقوا ودعموا القائد الثوري روبسبيار في بداية مسيرته ضد النظام الملكي القائم، وذلك بسبب تحوله إلى دكتاتور سعى بعد وصوله إلى السلطة إلى الانحراف والانجرار وراء مغريات وغريزة الاستئثار بالصلاحيات التي منحته إياها الثورة.
ويمكننا أن نذهب بعيدا في سرد ما جاء في التاريخين القديم والحديث بشأن الثورات الشعبية، ولكن تبقى الثوابت واحدة وذاتها وهي أن الثورة أيّا كان منشأها، عندما تفقد عناصر ومقومات تواصلها مع شعبها لابد لها وأن تنهار على رؤوس أبنائها أولا، أي على رؤوس الطبقات والشرائح الشعبية التي أوصلتها، قبل أن تطول الفئات الأخرى من الشعب ولا سيما الطبقات المخملية منه. فالثورة التي تريد الاستئثار بالسلطة والتي تسعى للبقاء والاستمرار، لابد لها من أن تعمل أولا على مراعاة الطبقات الميسورة والنافذة من المجتمع، على حساب الفئات الأخرى الأقل يسرا وسلطة. فتبدأ سلطة الثورة بممارسة القمع والإرهاب على هذه الشرائح بالذات لإسكاتها، لأنها الأضعف والأسهل تدجينا.
تستهلك في بداية الأمر وسائل الكلام المنمق والشعارات العاطفية والغرائزية ومنها أيضا القومية، وغالبا ما تنجح، ولكن يبقى نجاحها مرحليا حتى ولو امتد على فترة طويلة من الزمن. وفي فترات التأزم الأصعب تلجأ إلى التخويف من عواقب الانسياق والانجرار خلف التيارات الاحتجاجية أيّا كان شكلها أو أهدافها. وأن تكون هذه الاحتجاجات مصدرها معاناة معيشية أم أزمات سياسية لا فرق، المطلوب من هذه الشرائح الشعبية والتي تسمى شرائح الثورة، السكوت والانكفاء وصولا إلى استعمال الأفيون مكان الخبز لا يهم، المهم التعتيم وكم الأفواه حفاظا على سلامة الثورة ودرأ لها من الوقوع والانحلال.
وخلال فترات التأزم هذه تصبح كل الوعود بالإصلاح والتغيير واردة من قبل سلطة الثورة. ولكن أي تغيير وأي إصلاح هو ممكن في ظل الأنظمة الشمولية، وخاصة إذا كانت أيضا ثيوقراطية، وهي ميزة تعطيها الزائد من عناصر القوة، والمتأتية من التحليل الإلهي لكل تصرفاتها القمعية. فلا تغيير أو إصلاح هو ممكن على يد أي طبقة متواجدة في السلطة، وممسكة بمقاليد الحكم أو حتى على يد الفئات المعارضة لها، ولكن ضمن اللعبة القائمة، أي لعبة تقاسم الصلاحيات. وكل الإصلاحات البنيوية في المجتمع إنما تكون على يد المجتمع المدني، وغالبا ما تبدأ الإصلاحات من الدوائر الواسعة أو الأوسع باتجاه الدوائر العليا أو الأضيق، ومن النادر حدوث العكس. وذلك بالرغم من مزاعم بعض الوصوليين الذين يدعون الإصلاح والتغيير الثوري، أو الانقلاب الجذري على المفاهيم والأعراف الذين يعتبرونها بالية وتخطاها الزمن، من الداخل أي من داخل السلطة. ولطالما رأيناهم يفضلون ويؤثرون الوصول أولا، ومن ثم يعلنون ويدّعون السعي نحو التغيير. فما من تغيير ممكن بالمهادنة والممالقة والمشاركة في اقتطاع الحصص. والتغيير الفعلي لا يحصل سوى بعد ونتيجة خضات وزعزعات للهيكلية القائمة، وصولا إلى قلبها رأسا على عقب إذا لزم الأمر.
فالإصلاح ضمن السلطة وحتى ولو كانت السلطة القائمة تسمي نفسها ثورية هي مستحيلة، ولا يمكن إحداث ما يسمى بالثورة المضادة على يد المعارضة أيّا كان شكلها، لأن المعارضة عادة ما تواكب تشكيل السلطة القائمة وغالبا ما تكون من العجينة والطينة ذاتها. ناهيك عن كون الشهوة في الحكم والرغبة في الاستمرار والاستئثار بالسلطة، تحتم استبعاد التغيير الفعلي والذي من المفترض أن يحصل بالوسائل الديمقراطية السليمة البعيدة عن الغش والتزوير. وهنا الشروط الديمقراطية في تداول السلطة تكون نابعة من ضرورة مواكبة العصر ومن ضرورات التكييف مع الأجيال الجديدة ومن ضرورة إيجاد على رأس السلطة أشخاصا يواكبون عصرهم، وبإمكانهم تفهم الأجيال الجديدة وتطلعاتها ومطالبها وميولها وأهدافها في الحياة. ولا يمكن لأية سلطة أن تستمر بعيدا عن التأقلم وعن التماشي مع المتغيرات الحاصلة حول العالم، كما أنه من المستحيل على أية ثورة أن تبقى الى الأبد وتشيخ على رأس السلطة، دون أن تنتظر ثورة جديدة، مغايرة تماما لشكل الثورة التي أوصلتها.
من هنا يمكن القول إنه بالنسبة إلى ما هو حاصل في إيران كان من المتوقع أن يحدث، الذي يحدث اليوم تماشيا مع سير التاريخ وسير تطور الحياة وبشكل عام. وقد تكون مجريات الأمور اليوم بوادر لثورة جديدة، ولا يمكن تسميتها بالثورة المضادة، كونها ليست حاصلة على أيدي الذين واكبوا التحركات الأولى بل على يد أبنائهم. وفي وقت شكل مير حسين موسوي أو سقوطه الظاهر في الانتخابات الصاعق الذي دفع بالاحتقان الموجود أصلا إلى الانفجار، لا يمكن تصور المرحلة المقبلة والأمن مستتب فيها بمجرد عودة المرشد الأعلى عن مواقفه بالتمسك بالرئيس المنتخب، أو بقيام سلطة جديدة على شاكلة قيادة جماعية مشكلة من مرجعيات روحية «عتيقة» لا تمثل تطلعات الشباب الذين يشكلون الغالبية من الشعب الإيراني (70 في المئة). كما أنه من المتوقع أن تكون المعالجات مجرد مرحلية كونها لن تصل إلى لب المشكلة ولا تعالج أصل الداء والذي ليس طبعا وجود أو عدم وجود المرشد الأعلى خامنئي على رأس السلطة. وإن أخذت الحركات الاحتجاجية شعار «سقوط الدكتاتور» كما يرد ويسمع في الليالي ومن على سطوح الأبنية، تظل فكرة «الدكتاتور» مبهمة حتى الساعة وغير واضحة المعالم وغير معبر عنها بشكل صريح. وقد يظهر جليا ربما في الأيام أو الشهور المقبلة أو السنين المقبلة عن أي دكتاتور يتكلم الشعب. وقد لا يكون رفض «الدكتاتور» بعيدا عن فكرة رفض نظام ولاية الفقيه برمته.
*كاتبة وصحافية لبنانية، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2493 - الجمعة 03 يوليو 2009م الموافق 10 رجب 1430هـ