شاءت الظروف أن تجمعني، مؤخراَ، وأحد تجار البحرين المتنورين ممن يهمهم، إلى حدٍّ بعيد مستقبل البحرين السياسي. كانت جولة سريعة في ذهن ذلك الفرد من مجتمع رجال الأعمال. بدأنا بالحديث عن الواقع السياسي الحالي والدور الهامشي الذي يبدو، كما كان يكرر محدثي، أن التجار غير قادرين على تجاوزه. وكلما أمعنّا في البحث عن مستقبل التجار السياسي كلما ضاقت السبل وتعقدت الطرق. رويدا رويدا وجدنا أنفسنا أمام علامة استفهام كبيرة وفي غاية الأهمية: ما هي الخيارات المتاحة اليوم أمام التجار كي يمارسوا دورا مؤثرا في الحياة السياسية البحرينية، وكلمة لها ثقلها، وموسعة في مجرى أحداثها؟
قبل أن نصل إلى تشخيص الخيارات، لابد لنا من رؤية الواقع السياسي لهذا القطاع الحيوي من المجتمع البحريني، والذي يمكننا تلخيصه في النقاط الآتية:
1. عزوف التجار، حتى بعد أن دخلت البحرين مرحلة الإصلاح السياسي، وما رافق ذلك من انفتاح سياسي فتح أمام التجار آفاقا واسعة لممارسة دور سياسي فاعل ومؤثر، من خلال القنوات التي فتحها ذلك الإصلاح، بما فيها قنوات مثل البرلمان ومؤسسات المجتمع المدني التي تدور في فلكه. هذا العزوف همّش من دور التجار وقلّص من نسب مساهماتهم السياسية.
2. توهّم التجار، في أن البرلمان هو القناة الأساسية، إن لم تكن الوحيدة التي يمكن ممارسة العمل السياسي من خلالها. هذا الأمر أفقد التجار القدرة على رؤية دور المؤسسات الأخرى من جمعيات ومنظمات، ليست بالضرورة ذات الطابع السياسي، من جهة، وقلّص من إمكانات التعاون البناء مع هذه المنظمات من جهة أخرى.
3. افتقاد التجار، نظرا إلى التطورات التاريخية التي عرفها قطاع رجال الأعمال، للتنظيم السياسي المعبّر بشكل مباشر عن مصالحهم المهنية والسياسية. والمقصود هنا أي شكل من أشكال التنظيمات الذي يمكن أن يأخذ على عاتقه مسئولية وضع برنامج وطني متكامل يعبّر في جوهره عن مصالح التجار ويدافع عن حقوقهم، دون الإخلال بالمصالح الوطنية العامة.
4. تردد التجار في حسم أمورهم والخروج بتصور واضح يحدد طبيعة التحالفات الصحيحة التي ينبغي لمجتمع التجار أن ينسجها مع القوى السياسية المختلفة بما فيها تلك القوى الممسكة بالسلطة. أدى هذا التردد من قبل التجار إلى حرمانهم من أية قناة اتصال وتواصل مع أي من القوى السياسية حتى تلك التي تولّدت بعد انطلاقها إثر تدشين المشروع الإصلاحي.
5. سيطرة المدخل المالي على سلوك التجار السياسي، حيث تتوهم نسبة عالية من قطاع التجار أن المدخل للعمل السياسي يتطلب توفير رأس مال كبير تقع على عاتقه تغطية الأنشطة السياسية التي يحتاجها تنفيذ أي مشروع سياسي يدافع عن مصالح التجار. ورغم أهمية المال، لكنه ليس العامل الوحيد، بل إنه ليس العامل الأهم في معادلة الصراعات السياسية.
أما هذا الواقع وفي ضوء جردة سريعة لكل الإمكانات السياسية المتاحة يمكننا أن نحدد الخيارات المتاحة على النحو الآتي:
1. تأسيس تنظيم جديد من التجار أنفسهم وينبثق من بين صفوفهم، بمعنى أن يكون أعضاء هذا التنظيم من أفراد المجتمع التجاري ذاته. وهنا على التجار أن يختاروا مجموعة متنورة منهم قادرة على ممارسة العمل السياسي. ربما تكون هذه الطريق طويلة وتكتنفها الكثير من العقبات، لكنها تبقى في نهاية المطاف أحد الخيارات التي بوسع التجار قراءتها.
2. تأسيس تنظيم جديد من خارج الجسم التجاري، يكون قوامه من أولئك المؤمنين بدور التجار السياسي، وبالتالي يأتي برنامج ذلك التنظيم مُعبِّرا عن مصالح التجار وحقوقهم. هذا يتطلب من التجار أن يسبقوا تلك الخطوة بخطوة أخرى يقومون من خلالها بتحديد أهداف ذلك البرنامج وآفاقه، وخصوصا على المستوى السياسي.
3. نسج تحالفات مع بعض أو مجموعة من القوى السياسية الفاعلة في ساحة العمل السياسي البحريني. ومن الطبيعي أن يحرص التجار، وهم في خِضَمِّ عملية نسج تلك التحالفات على تقديم بعض التنازلات، غير المبدئية من أجل الوصول إلى طريق وسط مع تلك القوى التي سيتم نسج التحالفات معها. ينبغي أن يتم ذلك دون التفريط بمصالح التجار أو مشروعهم السياسي الاستراتيجي الذي يميزهم عن الفئات الأخرى من المجتمع.
مسألة استراتيجية ينبغي أن تكون حاضرة في أذهان التجار، وهم يلجون غمار العمل السياسي، وهي أنه من الصعب اليوم، وبفضل الظروف القائمة، تحقيق أية مكاسب سياسية آنية سريعة، وأن الأمر بحاجة إلى نفَس طويل، ونظرة بعيدة المدى، تخطط ليس لبرلمان 2010، كما يردد بعض التجار، ولكن كي تكون للتجار كلمتهم في السنوات العشر المقبلة، سواء كان هناك برلمان أم لم يكن هناك أي شكل من أشكال المؤسسات التشريعية.
والخطوة الأولى على هذا الطريق أن يتداعى أولئك التجار المستنيرون، ومن بينهم من كان يحدثني، إلى لقاء يتدارسون فيه واقعهم الذي يعيشونه، ويُشخّصون من خلال حواراته واقع وثقل القوى العاملة في الساحة السياسية، ويخلصون من كل ذلك إلى تحديد دورهم السياسي الذين يريدون أن يمارسوه، خلال السنوات العشر، وليس الثلاث أو الأربع، المقبلة.
تبدو الخيارات محدودة، وتبدو الطريق صعبة، لكن تجار البحرين، قادرون، إنْ هم أرادوا، أن يُغيِّروا من المعادلة السياسية، وأن يضاعفوا من ثقلهم السياسي في تلك المعادلة، وفي غياب ذلك يتحول أي حديث عن دور سياسي للتجار مجرد دردشات سياسية ليس لها أي إنعكاس على أرض الواقع السياسي.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2493 - الجمعة 03 يوليو 2009م الموافق 10 رجب 1430هـ