قبل أيام طل علينا يوم دعم ضحايا التعذيب بالتحديد يوم 26 يونيو/ حزيران، فأقيمت الندوات وكتبت المقالات، فهذا اليوم يعد من الإشكاليات التي تقودنا إلى صراع بين الثابت التاريخي والمتغير الواقعي بالأساس. ففي الثابت التاريخي هناك تجاوزات على بعض المتورطين أو من ساقهم القدر أو الوشاية أو الخوف من الآخر. لقد انتهكت كرامتهم الإنسانية بما يسمى التعذيب، كذلك لا نغفل عن من راح ضحية تلك الفترة من رجال الأمن سواء بالقتل أو التنكيل أو النيل من ممتلكاتهم الخاصة فقط لسبب أنهم ينتمون لهذه الوزارة أو تلك. أما المتغير الواقعي بالأساس فإنه الواقع المعاش والعمل على بناء ما هو في صالح المستقبل، كما أن قراءة تلك الحقبة بسلبياتها لدى وجهة نظر البعض وإيجابيتها لدى الطرف الآخر، تقودنا إلى سؤال هو فرض الثابت التاريخي كأمر واقع في ظرف المتغير، هل يمكنهم أن يتعايشا أم إن صراعهما أمر محتوم؟ أم هو سنة حميدة؟ أم هو مرض مزمن في فكر البعض لا يمكن تجاوزه؟ إن اجترار أزمات الماضي دليل على كمون العلة لدى البعض الذي يأبى تجاوزها، كما أن تجاوز الماضي رهن بحل هذه الإشكالية لدي فكر البعض حيث اجترارها يشعل فتيل الصراع من حين لآخر، وتشعل نار صراع الثابت والمتغير أكثر من أي وقت مضي، وهي تؤدي إلى الفشل الفردي والجماعي، سننمحي إذا لم نتساءل عن سبب أزمتنا، سننمحي إذا ركنا إلى الحل اليقيني الثابت، سننمحي إذا احتمينا بقلاع عالم المثل كي نحقق مجتمعنا الفاضل لا نريد القطيعة مع الماضي ولا نريد ذلك الماضي نعيشه كواقع. لا يتعلق الأمر بإلغاء الماضي كما يعتقد البعض، إننا نعاني نفس المشكلات لكنها تختلف من جهة إلى أخرى، ففي تلك الحقبة أرواح زهقت من الطرفين، علاوة على أن رجال الأمن مازال يعانون ومنهم من قضي نحبه في الفترة الأخيرة. إن جل مشكلاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ماهي إلا انعكاس للأزمات المشار إليها تعذيب، تخريب، إرهاب، الولاء للخارج أو عدم الولاء له، صراع الفرق والمذهب والجماعات الإسلامية الشيعية والسنية، صراع فكري صراع وجودي عقائدي أكبر منه صراع اقتصادي إلى السياسي إلى انه صراع داخلي في الأنا الفردي والجمعي، والخطير في الأمر أنه يمنعنا من التواصل مع الآخر ومعرفته. يتجلى مضمون تجاوز الماضي في إرادة الخير العام والنفع العام والحق العام والمصلحة العامة، وفي ابتغاء الأمن والسلم الاجتماعيين، وهذه جميعا لا تتجلى واقعيا إلا في إرادة الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية وفي منافعهم وحقوقهم ومصالحهم الفردية والخاصة، إذ لا وجود فعليا للعام إلا في الخاص والجزئي والفردي. فليس من خير عام إن لم يكن جميع أفراد الوطن الواحد بخير، وليس من مصلحة عامة إلا بازدهار المصالح الخاصة للأفراد والفئات الاجتماعية المختلفة في رحابها، وليس من حق عام إن لم تكن جميع حقوق الأفراد والجماعات مكفولة مصونة، فإذن علينا عند المطالبة وخاصة في البحرين فالمسئولية مشتركة والتجاوز مشترك في تلك الحقبة، إذن من يعوض، من زهقت أرواحهم وحرقت ممتلكاتهم من الطرف الآخر (رجل الأمن) اليس من باب أولى أن نتجاوز تلك الحقبة ولنبدأ من جديد. الوسطية التي تستحق اسمها، هي لحظة التوسط بين الفكر والأخلاق، وسطية مبدؤها الفكر أو العقل، فكر الواقع أو عقل الواقع، وغايتها الأخلاق وعدم اجترار الماضي في مالا ينفع. المبدأ والغاية هنا كالمبتدأ والخبر، مسند ومسند إليه، الغاية مغروسة في المبدأ ومحددة به فهل مبدئنا كساسة وكتاب تجاوز الماضي أم اجتراره وكأنه واقع معاش.
هل يمكن أن يتحقق الأمن المجتمعي لمجتمع ما دون وجود السلام الفكري لدى البعض الذي يمنح للفرد ضمان حماية حقوقه وحريته الإنسانية؟ وهل يمكن حماية الأمن الشامل للمؤسسات الاجتماعية والمدنية في ظل تغييب الاهتمام والتركيز عن السلام والأمن الفكريين؟
وهنا أقول هل كثير علينا أن نفترض أننا، كسائر خلق الله، كائنات عاقلة وأخلاقية يسري عليها ما يسري على غيرها من قوانين الواقع وقوانين العقل، فنكف عن إقصاء بعضنا بعضا وتكفير بعضنا بعضا وتخوين بعضنا بعضا والتشكيك في بعضنا بعضا وتقتيل بعضنا بعضا؟! وهل كثير علينا أن نفترض أننا ذوات حرة ومسئولة ليست في حاجة إلى ولاية أحد أو وصايته على عقولها وضمائرها؟! وهل كثير علينا أن نفترض أننا قادرون على اكتشاف ماهو عام ومشترك بيننا جميعا، والتعاقد والتعاهد والتواثق على ما فيه خير لنا جميعا بلا استثناء، على ما بيننا من فروق واختلافات في الدين أو المذهب أو في الفكر أو في السياسة، لا سبيل إلى طمسها أو إلغائها؟! وإلى متى ستظل عصبيتنا الدينية والمذهبية والطائفية والقبلية تحول دون إدراك ماهيتنا الإنسانية وأننا متساوون في الإنسانية، ويمكن أن نكون متساوين في المواطنة وفي الوطنية؟! إذن لماذا نبحث عن المدينة الفاضلة التاريخية في أدبياتنا أما آن الأوان لتجاوز الماضي بسلبياته والبناء للمستقبل بدل اجترار جدلية الماضي.
إقرأ أيضا لـ "سلمان ناصر"العدد 2490 - الثلثاء 30 يونيو 2009م الموافق 07 رجب 1430هـ