من المؤلم جدا ان يسمع العرب والمسلمون أو ان يقرأوا لتوماس فريدمان «اليساري» الأميركي المتعاطف مع «اسرائيل» والداعم للحرب على العراق ان بلاده «اضيفت اليها ولاية جديدة تضم 23 مليون عراقي، واننا تبنينا طفلة اسمها بغداد!».
لكن المؤلم أكثر هو ان يستمر العرب والمسلمون بالخطاب، والخطاب وحده في مواجهة التحديات الجديدة التي افرزتها حرب السيطرة على العراق والتفرد بقرار حكم العالم، على طريقة الادارة الأميركية اليمينية المحافظة.
ان تكون عربيا أو مسلما مساندا للعراق اليوم قد يكون عليك ان تفعل اي شيء يساعد العراقي على تجاوز مرحلة «لملمة الجروح» والخروج من حالة «الصدمة والذهول» باتجاه احياء «الأمل» في امكان اعادة ترميم الشخصية «العراقية» له كما يحب ويرضى هو، لا كما يتصورها أو يريدها له الآخرون وهم كثر.
فالعراقي اليوم يتحمل وحده تفاعلات النتائج المروعة التي بدأت تظهر على المشهد الاعلامي والسياسي لحكم توتالتياري دموي من دون ان يكون مسئولا عن صناعته أولا، ومن دون ان يكون قادرا على تجاوز المحنة الناتجة عن تبلور هذا المشهد ثانيا.
والعراقي اليوم، وهو الذي كان يعض على الجرح لوحده مدة تقارب 35 عاما، تراه اليوم مطالبا بدفع فاتورة الـ 35 عاما الماضية لوحده مرة أخرى خرابا وانعداما للأمن وإفلاسا للخزينة وفراغا سياسيا ونزاعات داخلية واقليمية ودولية بشأن العراق الجديد. وهو، اي العراقي - المواطن - المادة الخام آخر من يعلم ،آخر من يتشاو وآخر من يسأل، لكنه أول وآخر من يدفع الثمن!
تختلج في ذهن العراقي اليوم مشاعر مختلفة ومتضادة ومتعاكسة ومتضاربة وكلها صعبة على التحمل «لوحده» لكنه مضطر إلى مواجهتها جميعا وظهره للحائط لأن لا أحد قادر على فهمه أو تفهم مشاعره إلا من عانى مثله ومرَّ بالمسيرة ذاتها وهم ليسوا إلا مواطنين مثله لا حيلة لهم ولا قوة.
العراقي اليوم منشغل ومشغول بين ان يلملم جروح ما خلفه حكم صدام حسين البائد من اعدام لشخصيته التاريخية ووحدة هويته العربية والاسلامية بعد ان أدخله النظام البائد في حرب شاملة مع محيطه وجيرانه، وبين ان يستعد لدفع ثمن تلك الحرب بحرب اخرى تسميها ادارة بوش «تحريرية» فيما يؤكد جيرانه ومحيطه انها «احتلالية»، كما تؤكد الوقائع اليومية من حوله انها «هيمنية» وهي في الواقع أيا كانت «عملية جراحية» خطيرة عليه وعلى حياة بلده ووطنه الذي بات في مهب الرياح عربيا... بقي أو صار «ولاية أميركية» كما يحب ويشتهي توماس فريدمان والولاة الجدد الذين نصبتهم الادارة الأميركية عليه.
نعم بالنسبة إلى الآلاف من القادمين من الخارج سواء كانوا من السياسيين أو رجال الدولة السابقين أو تجار السياسة الجدد الذين ظهروا حديثا على المشهد العراقي، أو من رموز فصائل المعارضة السابقة المتعطشين للسلطة وأخذ نصيبهم من حواشي الكعكة التي باتت بقبضة الأميركيين، أو من بعض ابناء الداخل ممن رأوا الفرصة مناسبة لتطهير تاريخ سكوتهم عن الظلم والفساد اللذين كانوا يرونهما بأم عينهم... بالنسبة إلى هؤلاء جميعا ليس هناك ما يحرجهم أو يحرك مواجعهم سوى السهم الذي يريدون اقتناصه من حواش الكعكة «العراقية»!
لكن المواطن العراقي العادي وهو جمهور الـ 23 مليون الذين يريد توماس فريدمان ان يجعلهم جزءا من خريطة «النهب» الاميركية وليس «المواطنة» بالتأكيد، عندما يتحدث عن الولاية الواحدة والخمسين، هذا المواطن هو اليوم اكثر ما يكون بحاجة الى وقفة عربية واسلامية شجاعة الى جانبه، وقفة صادقة وجدية معه هو وليس مع السياسيين والاحزاب والفصائل والتقسيمات والتشكيلات والائتلافات والتحالفات التي تخوض الآن معارك تقسيم الغنائم والحصص أكثر مما هي بصدد اعادة بناء العراق.
ثمة من يتساءل اليوم بجدية عن دور العرب والمسلمين في مهمة اعادة بناء العراق! وإذا ما كانوا قد سلموه نهائيا الى «المتبني» القادم من وراء البحار البعيدة، واذا ما كانت اجتماعاتهم ومشاوراتهم ولقاءاتهم الثنائية والمتعددة وهم يناقشون «الملف العراقي» اقرب ما تكون الى ابراز القلق على مستقبلهم، من تداعيات ما حصل منها، الى مساعدة العراقي في «لملمة جروحه» ومساعدته في استعادة عافيته؟!
وهنا ثمة من يقول ايضا: لماذا لا يبدأ العرب والمسلمون بنقد موضوعي ذاتي لأنفسهم ومسلكهم طوال الـ 35 سنة الماضية فيما يخص موضوع التعامل مع النظام العراقي بالذات؟
لماذا يجتمعون اليوم قلقين ولم يجتمعوا طوال الـ 35 عاما الماضية قلقا على محنة العراقيين؟!
لماذا يسطحون التحليل والمعلومة معا ويرمون بالمسئولية على نظام الرئيس العراقي المخلوع وحده؟! وكأنه كان يعيش في جزيرة نائية عنهم! ولماذا لا يكشفون بجد خبايا وتفاصيل الاتيان به الى سدة الحكم من جانب الذين اطاحوا به هم أنفسهم كما بات معلوما للجميع؟!
وأسئلة كثيرة اخرى فيما لو تمت الاجابة عنها صراحة اليوم او في المستقبل القريب لعلها تساعد ليس فقط العراقي في «لملمة» جروحه بل وتمنع حصول كوارث جديدة متوقعة لسائر اقطار الامة العربية والاسلامية.
المواطن العراقي البسيط الذي يحاول ان ينتقل اليوم من الواقع المر الذي عاشه ما يزيد على ثلاثة عقود الى عالم من الخيال قد يكون أمرّ من الواقع الحالي اذا لم تُغتنم الفرصة وتُرك لوحده مرة أخرى امام احتمالات صناعة دكتاتوريات جديدة متعددة بدلا من الدكتاتور الاوحد، هذا المواطن العراقي بحاجة الى وقفة جادة من قبل اخوانه واشقائه واصدقائه من العرب والمسلمين، وقفة تعينه على ممارسة حريته وحرية انتخاب حاكمه وحرية بناء واعادة بناء بلده ودولته ونفسه بنفسه، وعندها فقط، أو بكلمة ادق وبعدها فقط، نستطيع ان نطلب او نطالب العراقي بالعودة إلى احتضان عروبته واسلامه كما يتوقع العروبيون والاسلامويون، لا قبل ذلك. ذلك لأن الاميركيين والغزاة عموما وهم يطاردون خصمهم - صديقهم السابق لم يكونوا يفكرون ولا للحظة ببلد اسمه العراق ولا بإنسان اسمه العراقي بقدر ما كانوا مهتمين «بكسر الجوزة» العراقية كما كان ينصحهم توماس فريدمان وأمثاله من المنظرين للحرب الشاملة على العراق، الأمر الذي اساء وأضر بالمواطن العراقي أكثر مما اضر برموز النظام السابق.
كل الدعم اذن للمواطن العراقي بعيدا عن اهواء ومطامع السياسيين وتجار السياسة «الحديثي النعمة» منهم و«المعتقين» ولنقف جميعا دقيقة «تأمل» من اجل العراق قبل ان نطلب من أهله ما تعودنا ان نطلبه منهم قبل الكارثة التي حلت بهم
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 249 - الإثنين 12 مايو 2003م الموافق 10 ربيع الاول 1424هـ