تتداعى تأثيرات الأزمة المالية العالمية وتنتشر انعكاساتها أفقيا في أكثر من بلد، وعموديا، على أكثر من صعيد في البلد الواحد. الملفت للنظر أن العديد من الدراسات تشير بأصابع الاتهام نحو الدول الغنية ليس في كونها الجهة التي أطلقتها، ولكن لكونها أيضا الطرف الذي لا يزال يشكل العقبة الأكبر التي تقف في وجه الحلول أو المساعي التي تحاول الحد من تلك التداعيات.
ثاليف دايين من وكالة «إنتر برس سيرفس» (http://ipsinternational.org/arabic ) ينجح، عبر مجموعة من المقابلات والتقارير، في إلقاء المزيد من الأضواء على هذا الدور السلبي الذي تمارسه الدول الغنية، وانعكاساته على الدول الفقيرة.
أول ما يبدأ به دايين هو دحض مزاعم الدول الغنية عند الحديث عن المساعدات التي لاتكف عن التبجح بتقديمها للدول الفقيرة، حيث يستعين بتقرير صادر عن الأمم المتحدة يكشف بأن «الدول الصناعية قدمت للبلدان النامية مساعدة قدرها 2 تريليون دولارا في نصف قرن، فيما أعانت مصارفها ومؤسساتها المالية بأكثر من 18 تريليونا في مجرد سنة واحدة».
ثم يستعين دايين بتصريحات مدير حملة ألفية الأمم المتحدة سليل شيتي الذي يؤكد أن «التباين الصارخ بين الأموال التي قدمت لأفقر فقراء العالم على مدى 49 عاما وبعد مؤتمرات قمة ومفاوضات مضنية، وبين حجم المبالغ المخصصة لانتشال من خلقوا الأزمة الاقتصادية العالمية، تجعل من المستحيل على الحكومات أن تدعي افتقار العالم إلى المال لإعانة 50،000 شخصا يموتون من الفقر المدقع، يوميا، (مضيفا) بأن إجمالي مساعدات التنمية المقدمة في 49 سنة تمثل مجرد 11 في المئة من كل الأموال التي تم توفيرها لمساعدة المؤسسات المالية في عام واحد».
ولتقديم المزيد من الإثباتات بشأن إسهام الدول الغنية، والتي هي أيضا الدول الدائمة في مجلس الأمن، في مضاعفة التأثيرات السلبية الناجمة عن الأزمة العالمية، يقول دايين إنها أنفقت على التسلح فقط «ما يقرب من تريليون دولار في العام 2008 وحده، أو ما يعادل بالتحديد 60 في المئة من إجمالي النفقات العسكرية في العالم التي بلغت 1.5 تريليون دولارا في العام 2008، وفقا لبيانات معهد إستوكهلم الدولي لدراسات السلام».
ويكشف دايين من خلال أرقام وردت في تقرير إستوكهلم الدولي لدراسات السلام على أن الولايات المتحدة كانت الدولة الأكثر إنفاقا، مبررة ذلك على أنه أنه جزء من مكافحة الإرهاب، الأمر الذي رفع «إجمالي نفقاتها على عملياتها العسكرية في أفغانستان والعراق بنحو 903 مليارات دولار إضافية». ووفقا لدراسات قام بها المعهد ذاته تمثل «زيادة الإنفاق العسكري الأميركي وحدها 58 في المئة من إجمالي ارتفاع الإنفاق العسكري في العالم أجمع في الفترة 1999- 2008 «.
رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة ميغيل ديسكوتو بروكمان يدلو بدلوه في إثبات مسئولية الدول الغنية في اندلاع الأزمة، وتوفير البيئة الملائمة لاستمرارها في آن، فنجده يؤكد في مقابلة له وكالة «إنتر برس سيرفس»، أن العالم اليوم يشهد «إفلاس النموذج الاقتصادي السائد جراء فشله الذي ستؤثر تشعباته طويلة المدى على أوضاع العالم بل وبقائه في حد ذاته». ثم ينتقل بعد ذلك ليكشف مسئولية الدول الغنية عن الأزمة فنجده يقول «لقد أنفقت الدول المتقدمة تريليونات من الدولارات لانتشال كبرى المصارف ورجالها ومساهميها. لكنها لم تنفق إلا القدر القليل نسبيا على البلدان النامية التي لا مسئولية لها في اندلاع الأزمة وتفتقر إلى القدرة على تحملها.
لقد خصصت «مجموعة 20» في قمة لندن 1.1 تريليون دولارمنها مجرد 50 مليارا للمساعدة في تلبية احتياجات التنمية والحماية الاجتماعية».
الكثير من المحللين الاقتصاديين حاولوا مقارنة الأزمة الحالية بأزمة العام 1929، محاولين، من خلال رسم سيناريوهات متفائلة، الجزم بإقتراب الخروج من الأزمة الحالية. لكن المحلل الإقتصادي رضا عبدالسلام (http://www.aleqt.com/2009/06/27/article_244866.html)، يميز في مقالة مكثفة الفوارق النوعية بين الأزمتين، محذرا من الإغراق في التفاؤل عند الحديث عن احتمالات الخروج من الأزمة الحالية، مرجعا ذلك إلى الانقسام العالمي الحاد بين دول تعيش في غنى فاحش، وأخرى في فقر مدقع. ووفقا لما يقوله عبدالسلام أنه «إذا كنا قد قلنا إن الفجوة خلال أزمة كساد 1929م كانت 1 إلى 3، فإن الفجوة بين الأغنياء والفقراء في مطلع الألفية بلغت أكثر من 1 إلى 60» التفاوت الصارخ يمكن أن نستشعره، سواء بين الدول، حيث قلة قليلة من الدول الغنية في مقابل أغلبية ساحقة من الدول الفقيرة، أو على مستوى المجتمع الواحد، حيث تضاعف عدد المليونيرات وهم قلة في مقابل تحول ما كانت تسمى بالطبقة الوسطى إلى طبقة معدمة».
باختصار يمكننا القول إنه طالما استمر الانقسام «الطبقي» على المستوى العالمي نظرا للفوارق المتصاعدة بين الدول الغنية وتلك الفقيرة، أو على مستوى البلد الواحد حيث تزداد الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الواحد، فمن الطبيعي أن نتوقع تفاقم الأزمة وازدياد سلبيات تداعياتها على الصعيدين العالمي والقطري. ويكمن الحل الجذري الصحيح، غير الطوباوي، في قدرة الاقتصاد العالمي الوصول إلى صيغة تحد من ترف أغنياء، دولا كانوا أم أفرادا، وتخفف من بؤس الفقراء، دولا كانوا أم أفرادا أيضا. وما يتم ذلك، يصعب الحديث عن مجتمع عادل دولي كان أم على مستوى الدولة الواحدة
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2487 - الأحد 28 يونيو 2009م الموافق 05 رجب 1430هـ