لأن الأمور الصحية لا تحتمل التلاعب، وخصوصا ما يتعلق منها بالموت أو الحياة، فإن أمراضا كأنفلونزا الطيور والخنازير تنال حظا وافرا من الحيطة والحذر، وهو ما يستدعي بذل الغالي والنفيس لمواجهتها. على هذه القاعدة يبدو أن الأمور تسير هذه الأيام بمستوى عالمي.
بقدر ما يشعر الإنسان بالخوف من تفشي الأمراض الوبائية في عصر باتت كل أبواب الأوبئة مفتوحة على مصراعيها بسبب العولمة الغذائية والبيئية، فإنه يدير الطرف أحيانا إلى ما يجري وراء الكواليس، ليسأل: هل ما يحدث حقيقة أم خيال؟ فأنفلونزا الخنازير مثلا لا يكاد أحد يشكك في أصل وجوده، ولكن الهالة الإعلامية الضخمة التي تحيط به لتشيع الهلع في النفوس على رغم أنه في غالبية أعراضه شبيه بالانفلونزا الموسمية حتى في عدد ضحاياه، تثير سؤالا مهما عن المستفيد من هذا التضخيم الإعلامي والاحترازات الدولية المعلنة.
في دراسة جديدة أجراها أحد المواقع رأى أكثر من 80 في المئة من أصل 35 ألف مشارك في الاستفتاء أن التصعيد الإعلامي الذي يرافق المرض «تضخيم غير مبرر»، ما يعني وجود هذا الهاجس لدى الكثير من الناس.
ربما تلتزم كل الحكومات والمنظمات العالمية الصمت إزاء حقيقة حجم مخاطر المرض لأنها تحْذَر من ردود فعل شعوبها في حال غضت الطرف عن تبعاته وتفاجأت بوصول أعراضه لاحقا إلى عقر دارها، وقد تكون محقة في ذلك إلى حد ما، ولكن ما كشفه عدد من الاختصاصيين مؤخرا في تقارير مطولة بإثباتات رقمية يؤكد وجود «مافيا» في سوق الأدوية العالمية تدير اللعبة من داخل أميركا وتروّج أدوية تصنعها خصوصا لهذا الغرض (التاميفلو مثالا) لتتكسب مليارات الدولارات من ورائها.
في خطوة جريئة على مستوى العالم قررت السلطات الصحية الاسترالية إزالة أجهزة الكشف الحراري من المطارات ودعت المواطنين إلى ممارسة حياتهم كالمعتاد من دون قيود. ونُقِل عن مدير معهد السرطان جيم بيشوب قوله إن «الوباء الهائل لا يعد سوى فرقعة سخيفة». جميع هذه الدلائل وغيرها تفرض على العقول العربية (خصوصا) النظر بواقعية وجرأة إلى موجات التخويف الإعلامي واستحلاب الموازنات العامة التي ينبغي أن تنفق على المشروعات الصحية الأكثر إلحاحا.
لن يفرط أي فرد في العالم بصحته ولن يطلب من حكومته غض الطرف عن هذه «الترّهات»، بل سيشكرها لأنها اهتمت بصحته، ولكن من حقه أن يطلب منها أيضا مصارحته بحقيقة ما يجري، وأن يدعوها لإعادة النظر قبل صرف موازنات ضخمة تذهب إلى جيب «مافيا الأدوية» بلا ضرورة، في حين تظل المشروعات الصحية فضلا عن مشروعات البنى التحتية معلقة بحجة الموازنة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 2484 - الخميس 25 يونيو 2009م الموافق 02 رجب 1430هـ