بعد مضي ست سنوات عجاف على التدخل الأنجلو- أميركي في العراق وافقت الحكومة البريطانية أخيرا على إجراء تحقيق طال انتظاره في الظروف والأسباب التي قادت إلى غزو وتدمير هذا البلد العربي الشقيق.
ولكن يبدو أن هذا التحقيق نفسه بحاجة إلى تحقيق لمعرفة الأسباب التي دعت إلى القيام به. بمعنى آخر لماذا جاء التحقيق في غزو العراق في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا يكون سريا كما يريد رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون؟ولماذا الانتظار عاما كاملا حتى تعلن نتائجه؟ ولماذا يقتصر على الموظفين الحكوميين وأصحاب المقام الرفيع الذين سيختارهم براون؟
لاشك أن موافقة «حكومة 10 داونيج ستريت» في هذا الوقت على إجراء تحقيق بشأن الحرب جاءت لإنقاذ الوضع المتدهور لحزب العمال البريطاني الذي ذاق الهزيمة على جميع الصُعد من قبل بعض الأحزاب البريطانية الأخرى التي اكتسحته الشهر الجاري في انتخابات البرلمان الأوروبي. وكذلك جاء هذا التحرك لتغطية التمرد الذي قاده عدة وزراء على براون بتقديم استقالاتهم بسبب فضيحة النفقات في مجلس العموم البريطاني. إن غالبية الناخبين العماليين هم اليوم بصدد التحول إلى أحزاب أخرى مثل حزب المحافظين أكبر أحزاب المعارضة بزعامة ديفيد كاميرون وحتى الانضمام إلى الأحزاب الواقعة أقصى اليسار كحزب «ريسبكت» بزعامة السياسي المخضرم وداعم القضايا العربية جورج غالاوي. والسبب الأساسي في هذا التحول أو النفور من حزب العمال من قبل الناخبين هو الكذب والتلفيق الذي ظل يمارسه رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير والذي مازال يسير على منواله رئيس الوزراء الحالي براون.
لقد أرسلت بريطانيا بطريقة عمياء نحو 45 ألف جندي ليشاركوا في حرب على دولة عضو في الأمم المتحدة فيما لم تعط المنظمة الدولية الضوء الأخضر بشن هذه الحرب. وبُررت الأسباب بالرغبة في الإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين بحجة إخفائه أسلحة دمار شامل لم يعثر عليها حتى الآن. وقف بلير جنبا إلى جنب مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش حيث أكدا معا للرأي العام العالمي أن صدام لديه أسلحة إبادة شاملة يمكن نشرها خلال 45 دقيقة. وكانت نتائج الحرب كارثية ليس على العراق فحسب ولكن على الولايات المتحدة وبريطانيا، إذ قتل أكثر من 4300 جندي أميركي حتى الآن ونحو 179 جنديا بريطانيا. أما عدد الضحايا العراقيين فحدث ولا حرج.
إن معدلات البطالة في بريطانيا التي وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ اثني عشر عاما (2.26 مليون عاطل) أي بنسبة 7.2 في المئة هي نتيجة طبيعية لتخبط سياسات بلير وبراون ومن ضمنها الإنفاق على الحرب. ولإنهاء هذه الحرب في العراق، ودعم العمليات في أفغانستان اضطرت الإدارة الأميركية الحالية لتخصيص نحو 106 مليارات من الدولارات في وقت تمر فيه البلاد بأعتى أزمة مالية منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
لا يريد براون في هذا التحقيق المرتقب أن يُلقي اللوم على أحد أو أن تدرس قضايا متعلقة بالمسئولية المدنية أو الجنائية ولكن التركيز سيكون على تحديد الدروس المستفادة من الحرب حتى يدعم البريطانيون ديمقراطيتهم ودبلوماسيتهم وجيشهم، بحسب زعمه!. ونسي رئيس الوزراء البريطاني أنه وبلير ذهبا للحرب من دون الرجوع إلى الشعب أو البرلمان، ولذلك كانت قوة معارضة الشعب لها هي التي اضطرت الأخير إلى التنحي في منتصف فترته الثالثة في السلطة العام 2007.
ويكشف تعمد إرجاء الإعلان عن نتائج التحقيق أي بعد عام كامل الهدف الخفي من ورائه وهو تفادي هزيمة قاسية لحزب العمال في الانتخابات التشريعية المقبلة التي ستجرى في موعد أقصاه يونيو/ حزيران 2010.
لذلك يجب على أحزاب المعارضة مقاطعة هذا التحقيق الصوري الذي لا يليق بالحرب الكونية التي هزت العالم بأسره وأزهقت فيها مئات الألوف من الأرواح البريئة. كما ينبغي أن يكون هذا الإجراء علنيا حتى تطمئن إليه عائلات الجنود البريطانيين وغير البريطانيين. ويتحتم كذلك مثول رئيس الوزراء السابق طوني بلير أمام لجنة التحقيق وأيضا كبار مساعديه آنذاك بما فيهم براون الذي كان وزيرا للمالية، علاوة على الكشف عن الوثائق السرية المتعلقة بالحرب.
وختاما لا يوجد هناك درس يستفاد من شن الحرب على العراق أكثر من التأكيد للأجيال القادمة أن الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس في يوم من الأيام أصبحت «دولة موز» تنساق وراء رغبات الرؤساء الأميركيين الطائشين من أمثال «بوش الصغير» وذلك بدلا من زجرهم أو على الأقل نصحهم حتى يعودوا إلى رشدهم إن كانت فعلا تمثل أوثق حلفائهم.
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 2479 - السبت 20 يونيو 2009م الموافق 26 جمادى الآخرة 1430هـ