واستكمالا للاركان والعوامل الأساسية التي تحقق مفهوم الوحدة الفكرية بين مجتمع المسلمين هو ركن المؤالفة والتوحيد والمقصود به توجّه العقل في البحث عن الحق بحيث يؤالف بين المعطيات التي يتوافرعليها، ويرد بعضها إلى بعض بحسب التماثل والتشابه، ويوحّدها في معيار دلالي يكون أساسا بمبدأ واحد تنخرط فيه جهود الفهم والتعليل، وتنبني على أساسه الرؤى والحلول. إن هذه الخاصية تضمن أن تكون الأحكام المعرفية موحدة المعيار فتنسجم نتائجها ولا تتناقض سواء كان ذلك في المعرفة الكونية بما تقوم عليه من وحدة القواعد في التجريب، أو في المعرفة الشرعية والإنسانية بما تقوم عليه من وحدة المبدأ والغاية، أما إذا كان العقل يتحرك في المعطيات المتاحة بثنائية في المعيار وبغفلة عن الرابطة الجامعة بينها فإنه يصل إلى نتائج وأحكام يعتريها التضارب، ويجانبها الصواب في كثير من الأحيان.
واعتماد المؤالفة بين المعطيات، وانتهاج المبدأ الموحد في التحليل وفي الإنشاء الغائي، من شأنه أنْ يفضي إلى النتائج المشتركة أو المتقاربة وإلى الأحكام والحلول المنسجمة.
فينخرط إذن كل من جمعهم هذا المنهج في الوجهة نفسها، ويتحركون إلى الغاية نفسها في تحقيق الحياة.
ثالثا: الواقعية: ومعناها أن يتخذ العقل في حركته لمعرفة الحق منطلقا من الواقع، سواء أكان واقعا كونيا أو نفسيا أو تاريخيا، فيكون ذلك الواقع هو المعطى الأساسي في التحليل للوصول إلى حقيقة ما هو كائن، أو تقدير ما ينبغي أن يكون، إما بالانتقال من الظواهر الحسيّة الكونية إلى قوانينها وسننها الكلية بطريق التجريب أو بالانتقال من الآيات والشواهد المادية إلى دلالاتها الغيبية في الخلق والتدبير، أو بالانتقال من واقع الحياة الإنسانية التاريخي والآني للانتقال إلى تقدير ما ينبغي أنْ يكون من وجوه الصلاح والرشد. ويناقض العقل في حركته المعرفية الصّور المجردة، يؤلّف بينها في معزل عن الواقع؛ ليصوغ منها شروحا للوجود أو رؤى إصلاحية يسقطها على حياة الناس.
وقد جاء القرآن الحكيم؛ ليصوغ فكر الإنسان صياغة واقعية... فقد وجّه العقل في سبيل إدراك حقيقة الغيب وسنن الكون إلى مظاهر الطبيعة المادية، وواقع النفس الإنسانية، كما قال تعالى «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم» (فصلت 53).
ومن الواضح أنّ الواقعية عامل وحدة فكرية، إذ بها يتم الاحتكام إلى الواقع الموضوعي، فتتوحّد المعطيات بين الناظرين، وينفسح مجال واسع للاتفاق في النتائج.
رابعا: النقدية: ومعناها أنْ يسلك العقل في حركته المعرفية مسلكا يجمع فيه بين المتقابلات من الآراء، ويقابل بين الاحتمالات المختلفة، ثم يمحّصها ويختبرها على أساس ذلك التقابل، فإنّ هذه المقاربة والنقد عامل مهم في ترشيد الفكر للوصول إلى الحق.
خامسا: الموضوعية: وتعني أنْ يتجرد العقل في سعيه إلى الحقيقة من العوامل الذاتية التي تعطل فطرته الملهمة بالصواب، ويتعامل مع موضوع النظر كمعطى خارجي مستقل، تقود عناصره الذاتية بهذا التعامل المجرد إلى الحقيقة.
- حرية الرأي والوحدة الفكرية للمسلمين: بادئ ذي بدء نقول إن الرأي يعني جهد العقل في البحث المعرفي، وثمرة ذلك الجهد من الأحكام.
وحرية الرأي تعني:
- حرية الإنسان في طرق النظر العقلي وأساليبه من دون أنْ تفرض عليه من الآخرين معطيات وأدوات من شأنها أنْ تؤدّي به إلى الخطأ، أو يلزم بسلوك طرائق معينة من شأنها أنْ توصله إلى نتيجة مبتغاة سلفا، حقا كانت أو باطلا، فإذا كان شيء من ذلك فإنه يعتبر وجها من وجوه السلب لحرية الرأي لما فيه من توجيه مسبق من الآخرين إلى رأي معيّن قد لا يصل إليه الناظر لو ترك حرا في النظر، بل قد يصل إلى ضده.
- ذلك هو الوجه المهم في حرية الرأي، وهو المعني أكثر من غيره في الاستعمال الشائع، إذ ما قيمة رأي يبقى حبيس الخاطر ولا يكون له في مجرى الحياة تأثير بأنْ يتبناه المجتمع ويعمل به؟ ومن ثم فإنّ الحرية فيه تعني أنْ يكون طريقه إلى الناس سالكا بانعدام كلّ المعيقات التي تعيق التعبير عنه من قبل صاحبه، أو سيرورته إلى الآخرين، أو وسائل دعمه والإقناع به. وإن وقع شيء من ذلك فهو يعتبر تقييدا لحرية الرأي.
ولعلّنا في هذا الإطار نعتبر أنّ ارتفاع الموانع الذاتية التي تعيق العقل عن النظر الموضوعي الموصل إلى الحق. وخصوصا منها مانع الهوى ومانع الموروث من التقاليد والعادات جزء من حرية الرأي.
ولا شك أنّ لحرية الرأي قيودا وضوابط منهجية مثل: التحي في المعطيات وفي المسالك المبلغة إلى الحق، والإخلاص في إرادة النفع العام، وإلا انقلبت إلى ضروب من المغالطة والتغرير والأنانية، كما أن لها قيودا أخلاقية مثل الصدق في تبليغ الرأي ونقله، والحسنى في الإقناع به، وإلا انقلبت كذبا وغشا وتجريحا ولجاجة، فتخرج إذن عن الدائرة التي رسمت لها في الاستعمال الشائع، وما نعتمده في هذا السياق هو الحرية بتلك الضوابط والقيود.
- حرية الرأي والوحدة الفكرية في الواقع الإسلامي الراهن:
لا نحتاج إلى الكثير من الجهد الذهني والفكري، حتى نكتشف وضع الأمّة المعاصر. إذ تعيش الفرقة والشتات في الكثير من شئونها وقضاياها... وليست تلك الفرقة، إلاّ شديدة العلاقة بالواقع الفكري المنهجي... فالفرقة السائدة بين المسلمين اليوم حينما نستجليها نتبين أنها ناشئة إلى حد كبير من اختلاف في منهجية التفكير بينهم، وهو اختلاف ذهب بتلك الصفات المنهجية المشتركة التي من شأنها أن توحّد طريقة النظر، فتتطابق الرؤى أو تتقارب، وتتوحّد الجهود نحو الهدف المشترك.
لقد حدث خلل بين في منهجية الفكر، طال العقلية الإسلامية بصفة عامّة فشكلها على نحو تباينت به النتائج عند النظر، وتشتت به الجهود عند العمل، فكان هذا الذي نراه اليوم من الفرقة. ولا ينافي ذلك أنّ آحادا من المسلمين بقوا في منهجيتهم الفكرية على السيرة الأولى من الفكر الإسلامي الموحّد على الصفات المشتركة، ولكن المسيرة الجماعية توجهها دائما العقلية العامّة.
- حرية الرأي والوحدة الثقافية:
والمقصود بالوحدة الثقافية هو وحدة الأسلوب في تحقيق الحياة على المستويين النظري والعملي. فالأمة الموحدة ثقافيا هي التي يلتقي أبناءها في أسلوب واحد أو متقارب على الأقل في معالجة القضايا نظريا، وفي الإنجاز العملي للحياة نظما إدارية واقتصادية وعمرانية، وفنونا وعلاقات اجتماعية وتقاليد وعادات.
وهذا الأسلوب الموحد، لا يتحقق إلاّ بتوفير مناخ من حرية الرأي تنفتح فيه العقول على المعطيات الكاملة للعنصرين معا: القيم الدينية الثابتة، والكسب المعرفي الإنساني.
وفي الأخير نقول: إنّ حرية الرأي تعد بحق مدخلا مهمّا إلى الوحدة بين المسلمين، وذلك بما تحدثه في العقول من خصائص منهجية مشتركة تتكون بالتلاقي والحوار والتبادل فتنشأ من ذلك وحدة فكرية بالمعنى المنهجي، تفضي إلى التقارب في التحليل والتعليل والحكم، ينهي بالمسلمين إلى الوحدة في الأهداف، والوحدة في طرق الإنجاز الموصلة إلى تلك الأهداف.
وقد دّلنا القرآن الكريم إلى أن جامع الأمة إنما هو حرية الرأي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن ذلك هو معقد الفلاح فقال، عز من قائل «ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب أليم» (آل عمران 104-105).
فالاختلاف حال طبيعية، متناغمة مع نواميس الوجود الإنساني. إذ اقتضت مشيئة الله سبحانه وتعالى، أن يخلق الناس مختلفين في قدراتهم الفكرية، وأمزجتهم وأذواقهم.فتختلف بسبب ذلك أنظارهم وأفهامهم.ويعطي هذا الاختلاف والتنوع للحياة مظهر التجدد، ويبعدها عن التكرار والرتابة، ويمكن من تنويع الإنتاج الإنساني، ومن تكثير الصور الفكرية للموضوع الواحد.
ويظل هذا الاختلاف المنتج للتنوع إيجابيا ومفيدا، ما دام نابعا من تلك الفروق الفطرية، وعن التباين الموضوعي في البحث عن الحق وهذا الاختلاف في حدوده الطبيعية هو أصل الوحدة، ومنبع التقدم والتطور، وما علينا إلا أنْ ننزع من أذهاننا روح التشاؤم، ونعمق روح الثقة بالعقل والإنسان.
عنذئد يصبح الحوار - ونحن مختلفين - ممكنا ويصبح الاحترام المتبادل شرطا لاستمرار هذا الحوار. فالاختلاف الذي يسمح به الشرع، هو نتيجة طبيعية ومنطقية لمشروعية الاجتهاد، لأنه من المستحيل القبول بالاجتهاد دون القبول بآثاره التي من جملتها اختلاف نظر المجتهدين. ولكننا في الوقت الذي نعتبر فيه أن الاختلاف حال طبيعية مرتبطة بالوجود الإنساني، نرفض الاختلاف المطلق أو ما يصطلح عليه بـ «الاختلاف من أجل الاختلاف»، لأنّ معنى هذا الاختلاف هو التشتيت الدائم والمستمر للآراء والأفكار، ويبقى كل منها منغلقا على ذاته، رافضا للآخر؟، كلّ منها يشكّل عصبية لا تقبل التعايش والحوار، فهو صراع عصبوي حتى لو تجلبب بجلباب الاختلاف.
فالاختلاف في حدوده الطبيعية، ليس مرضا يجب التخلص منه والقضاء عليه، بل هو محرك الأمم نحو الأفضل، ومصدر ديناميتها، وهو يقود بالإدارة الحسنة إلى المزيد من النضج والوعي والتكامل.
والوحدة ليست توحيدا قسريا بين الناس، بل هي الإجابة الإنسانية الواعية عن السؤال... التحدي: كيف تنجح الأمة في إدارة اختلافاتها، وتفقه أنْ تتعاون مع بعضها بعضا، من دون أن تتطابق وجهات النظر في كلّ شيء؟
العدد 2478 - الجمعة 19 يونيو 2009م الموافق 25 جمادى الآخرة 1430هـ