سنقلل من شأن أي تفسير يجنح نحو المبالغة إن أدركنا أن السياسات الخارجية للدول لا يصنعها في العادة الرؤساء وحدهم، وهو الأمر الذي لا يختلف كثيرا في الحالة الإيرانية، ففي الجمهورية الإسلامية الإيرانية هناك مطابخ عديدة يُطهى فيها كل قرار ذي صلة بالخارج، وفي أحيانٍ ليست قليلة لا يكون صوت رئيس الجمهورية فيها هو الحاسم.
رغم إنني كنت من الراغبين في وصول المرشح الإصلاحي حسين مير موسوي، لأنني كنت أرى فيه «رجل المرحلة»، ورجل يمتلك رصيدا غنيا من التعامل مع القضايا الداخلية من خلال تجربته الناجحة في شغل منصب رئاسة الوزراء في سنوات الحرب، وكانت هذه الخبرة ستسعفه على مواجهة جملة من التحديات الاقتصادية التي تعاني منها إيران وفي مقدمتها الفقر والبطالة وارتفاع معدلات التضخم.
وعلاوة على ذلك فإن مير حسين موسوي ربما صداه سيكون أبلغا في التعامل مع المشهد الدولي الذي لا يزال يرفع لواء «العصا والجزرة» مع الجمهورية الصعبة المراس، ولكن رغم كل الترغيب والتهديد فإن أحدا لا يستطيع أن يجادل على حقيقة مهمة وهي أن طهران لا تزال تمسك بكل خيوط اللعبة في المنطقة، وأن أي حلٍ لقضايا الشرق الأوسط بالغة التعقيد لن يكون من دون مباركة الإيرانيين.
كنت أرغب في وصول موسوي، لأنني أعتقد أن الحيوية والتغيير عمليتان ضروريتان في تنشيط الدماء في أي نظام سياسي، وأن تقديم مرشح جديد في كل دورة رئاسية سيكون عاملا من عوامل إثبات الديناميكية التي يتحلى بها الهرم السياسي القيادي في إيران بعد ثلاثين ربيعا على ولادة الجمهورية الإسلامية.
ولكن رغم كل ما سبق، لا أجد نفسي اليوم نادما على فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد، وذلك لأسباب ليست صعبة التفسير.
نحن في الضفة الأخرى من الخليج حيث نتقاسم مع إيران هذه المنطقة الجغرافية والسياسية الحيوية لم نرَ من أحمدي نجاد – طوال سنوات حكمه الأربع- موقفا عدائيا تجاه منطقتنا العربية، بل قدم أحمدي نجاد مقترحات عملية لقمة مجلس التعاون الخليجي، وسعى نجاد لاحتواء الأزمات التي أثيرت بعد تصريحات لعدد من المستشارين في إيران.
موقف أحمدي نجاد كان واضحا وجليا في دعم القضية الفلسطينية ومناصرة حركات التحرر في فلسطين ولبنان، وسرق أحمدي نجاد شعبية أثارت حفيظة غيره من الزعماء عندما وقف من على منبر مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة العنصرية والتمييز ليعلن إدانة تاريخية لخطيئة الغرب في زرع كيان دموي في هذه المنطقة، ولم يحزنني انسحاب من كانوا داخل القاعة الضخمة، لأنهم لم يعتادوا يوما على سماع الحقيقة.
لن أقف كثيرا في وجه من يقولون إن أحمدي نجاد لم يمد يده للعالم كما يجب، ولكن ليس صحيحا كذلك القول إن أحمدي نجاد عزل إيران عن العالم، وحتى لو عزلها عن بضع دول، فإنه لا يصح على نحو التعميم إطلاق هذا الحكم.
صحيح أن أحمدي نجاد لم يتمكن من تحقيق تقدم اقتصادي نوعي في إيران، ولكن الوضع الاقتصادي في إيران في عهده لم يكن اسوأ من سابقيه، وفي المقابل فقد عمل أحمدي نجاد بشكل دؤوب على تعزيز التنمية اللامركزية في جميع محافظات إيران المترامية الأطراف التي زارها مع فريق لا يقل عن 15 وزيرا من حكومته للإشراف على بناء مشروعات تنموية تتعلق بعضها بتطوير البنية التحتية وتحسين شبكة الخدمات الحكومية.
سيقال إن أحمدي نجاد حالفه الحظ ليعيش ولايته الأولى مع وفرة نفطية غير مسبوقة عالميا، وأنه استفاد من هذه الوفرة في بناء عدد من المشروعات الصناعية الكبرى، ورغم صحة هذا الرأي فإن ذلك ليس مثلبة في الرئيس نجاد إن لم نقل أنها واحدة من حسناته.
لا غرو أن أحمدي نجاد في كسب لعبة الوقت مع الأقوياء في المشهد الدولي وخصوصا في ملف التعامل مع الولايات المتحدة الأميركية، فالحرب الموعودة على إيران لم تقع، والرئيس جورج بوش الذي كان يلوح بالعصا الغليظة ها هو قد رحل عن البيض الأبيض، ليرثه رئيس ذو توجهات مغايرة تماما، فباراك أوباما يدرك تماما أن عددا لا بأس به من مفاتيح الحل والعقد لصراعات الشرق الأوسط باتجاهاته الأربع يملكه الإيرانيون.
فالحكم الجديد في العراق هو حليف قديم لطهران، و»حماس» المتمردة في غزة تملك علاقات استراتيجية مع آيات الله، وحزب الله الرقم الصعب في المعادلة اللبنانية قريب حتى حبل الوريد للنظام الإسلامي، وكذلك الحال مع الملف الأفغاني الذي طلبت واشنطن فيه علنا نجدة طهران في المؤتمر الدولي الذي دعت إليه الولايات المتحدة لتخفيف خسائرها في المستنقع الأفغاني.
الورقة الإيرانية الضاغطة هي « البرنامج النووي»، فأحمدي نجاد واصل مشروع بلاده المثير لجدل الغرب بيد، ولم يرفض باليد الأخرى مفاوضة الأوربيين في مجموعة « 5+1»، وهو مستمر في قصة العلاقة غير الغرامية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كل ذلك فضلا عن أمن الخليج الذي يشكل المصدر الأول للطاقة في العالم.
لن يكون من قبيل المصادفة أن نشهد عقد قران أميركي- إيراني في عهد الرئيس القديم/ الجديد، والسبب أن واشنطن مضطرة لأن تخطب ود طهران في هذه المرحلة أكثر من أي وقت مضى، ونجاد ربما بفريق جديد وسياسات أقل تشددا في الملفات الخارجية سيكون الأوفر حظا بين زعماء المنطقة في الحضور الإقليمي والدولي، ومن المرجح أن يستفيد إيجابا من علاقاته مع ضفة الخليج الأخرى من أجل منطقة خالية من «الخصام الشامل»... نجاد من وحي تجربته قد يدرك حاجتنا للتفاهم أكثر ممن سواه... لذلك كله نحن لسنا نادمين على فوز محمود أحمدي نجاد!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2476 - الأربعاء 17 يونيو 2009م الموافق 23 جمادى الآخرة 1430هـ