الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة التي تفجرت في الولايات المتحدة الأميركية في أواخر العام الماضي بإعلان العجوزات في استحقاقات الرهن العقاري وتوالت حبات المسبحة في السقوط من إعلان الإفلاس لكبريات البنوك وشركات التأمين والسيارات والبدء في الركود الاقتصادي الذي أصاب العالم كله.
هذه الأزمة الاقتصادية الرأسمالية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، حيث أن جوهر النظام الاقتصادي الرأسمالي يحتضن الأزمات الدورية ويعترف النظام نفسه بدورات الركود والتضخم وما تصاحبها من أزمات البطالة أو ارتفاع الأسعار وتآكل القوة الشرائية.
وعند كل أزمة حادة كانت الرأسمالية تتعامل معها بمرونة عقائدية فائقة وبرغماتية واضحة، ولم تكن تتردد في الاستفادة من أية نظرية أو تجربة اشتراكية ناجحة والأخذ بها وتطعيم الاقتصاد الرأسمالي بآلياتها.
حدث ذلك على وجه الخصوص أثناء الركود العالمي العام 1929 والتقاط المفكر الاقتصادي المعروف (كينز) لآليات التدخل الحكومي في الاقتصاد وأهمية دور الدولة في الإنفاق العام.
أمام كل أزمة اقتصادية بل وقبلها تعرض على الساحة السياسية والاقتصادية عشرات الدراسات والمقالات ونتائج الاستبيانات يتم فيها تحليل الأسواق والاقتصاديات وبعضها تقدم رؤى مستقبلية، بل وأثناء الأزمة الراهنة خرجت تحليلات تؤكد على انهيار النظام الاقتصادي الرأسمالي وبروز نظام جديد.
إن أغلبية هذه الدراسات لم تكن دقيقة ولم تستطع التنبؤ بانفجار الأزمة ولا آفاقها ونهايتها، حيث كان عدم اليقين هو سيد الموقف، وأمام كل إجراء وبرنامج جديد تتغير القناعات وتتم ملاحقة التطورات لتبرز تنبؤات جديدة تنسجم ومع نتائج تلك الإجراءات.
أهم السياسات والإجراءات
الدول الصناعية الكبرى وقممها التي عقدت أثمرت عددا من السياسات التي بدأت تحاول التخفيف من الأزمة الراهنة في النظام الرأسمالي، أهمها تعهد وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى باتخاذ إجراءات مجتمعة وفردية، وتم إطلاق صندوق إنقاذ بمشاركة معظم الدول بنحو (700) مليار دولار، وإعطاء سلطة قوية لوزارة الخزانة الأميركية لشراء ديون الرهن العقاري المعدومة، وموافقة البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي منح قرض طارئ بقيمة (85) مليار دولار إلى مجموعة التأمين (أمريكان انترناشونال جروب) لمحاولة إنقاذها من الإفلاس.
كما اتخذت مجموعة العشرين قرارات تاريخية أهمها ضخ الأموال المليارية في الاقتصاد العالمي، وضرورة وضع آليات شفافة ومتشددة للرقابة المالية على القطاع المالي والمصرفي، وضخ نحو تريليون دولار إضافية لصندوق النقد والبنك الدوليين، مع مضاعفة موارد الصندوق ثلاثة أضعاف لتصل إلى (500) مليار دولار إضافية، والسماح بتسييل احتياطاته من الذهب لمساعدة الدول الأكثر فقرا، كما تم تخصص (250) مليار دولار لدعم تمويل التجارة.
في هذا الشأن اعتبر بعض المحللين أن هذه الإجراءات التدخلية من قبل الدول الرأسمالية بمثابة بداية لولادة نظام اقتصادي عالمي جديد، وهو الأمر الذي لا أعتقد بأنه دقيق حيث إن الرأسمالية عند كل محطاتها المأزومة كانت تغير سياساتها وإجراءاتها لتجديد نفسها لا لتحطيم بنيتها وجوهر نظامها المستمر. ولذلك فأي نظام اقتصادي جديد يحافظ على جوهر النظام الرأسمالي لن يكون نظاما عالميا جديدا وإنما تجديدا لذات النظام الاقتصادي الرأسمالي الراهن. وقد يصاحبه تراجع في ثقل ودور الولايات المتحدة وعملتها الخضراء لحساب الدول الصناعية الأخرى وعملاتها.
مؤشرات التحسن
أو التأزم الاقتصادية
للنظام الرأسمالي مؤشرات اقتصادية كمية قادرة على قياس التحسن التدريجي للاقتصاديات الرأسمالية أو استمرار التأزم فيها، وعبرها يتمكن النظام الاقتصادي العالمي من تحسين أدائه لينتقل من الأزمة إلى الاستقرار النسبي، ومن خلال معرفة مكونات هذه المؤشرات يستطيع تعديلها وتطويرها ليبقى الجوهر الرأسمالي للاقتصاد مستمرا.
وكمثال على هذه المؤشرات نعتمد على تقرير البيت العالمي في البحرين (غلوبل هاوس) الذي نشر حديثا:
1 - مؤشر (ستاندرد بورز 500): مكونات هذا المؤشر يتم اختيارها من قبل لجنة وهو مماثل لمؤشر داو جونز، ولكنه يختلف عن الآخرين، مثل راسل 1000، والذي يستند إلى قواعد صارمة. وتختار اللجنة الشركات في مؤشر ستاندرد اند بورز 500 بحيث تكون ممثلة لمختلف الصناعات في اقتصاد الولايات المتحدة.
أعلى ارتفاع سجله المؤشر كان في 24 مارس/ آذار 2000م، عندما سجل 1,552.87 نقطة. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2002 فقد المؤشر 50 في المئة من قيمته وسجل 768.63 نقطة والذي يعتبر أدنى مستوى له. وفي يوليو/ تموز 2007 ارتفع المؤشر إلى 1,555.10 ليسجل أعلى مستوى ارتفاع خلال السبع سنوات الماضية. والتي تعتبر الأولى في القرن الحادي والعشرين.
في منتصف العام 2007 ونتيجة للصعوبات الناجمة عن قروض الرهن العقاري والتي انتشرت على نطاق أوسع في القطاع المالي، أدى إلى هبوط سريع في السوق. وبعد زيادة الأزمة في سبتمبر/ أيلول 2008، والدخول في فترة التقلبات الغير عادية سجل المؤشر 752.44 نقطة وهو أدنى مستوى إغلاق منذ أوائل 1997. هذا وفي منتصف مارس 2009 بدأ المؤشر بنوع من التعافي عندما سجل 930 نقطة.
وهذا المؤشر يجب أن يستقر لمدة 3 أشهر، وفي الوقت الحالي فإن هذا المؤشر الأميركي المهم مازال يسجل الخسائر، ولكن إذا استقر لفترة من الزمن فذلك يعني أن المستثمرين تجاوزوا مرحلة الصدمة جراء الأزمة.
2 - مؤشر سوق مبيعات السيارات أو مؤشر السلع المعمرة ذات الأثمان المرتفعة: ومازال هذا المؤشر يسجل تراجعا شهريا حيث وصلت مبيعات هذه الشركات إلى 45 في المئة، مع أن المراقبين حسب تقرير البيت العالمي يتوقعون استقرار الأرقام بحيث تقتصر التراجعات بين 10 في المئة إلى 20 في المئة.
3 - مؤشر سوق السندات المالية للدول النامية: وقدرة هذه الأسواق حصولها على السيولة من الأسواق العالمية، وفي هذا الشأن فإن دول الخليج العربية تعتبر من أهم هذه الدول لأهمية أسعار النفط في توفير السيولة ولوجود فوائض مالية ضخمة فيها.
4 - مؤشر دور صندوق النقد الدولي وحصوله على تعهدات مالية وضخها للدول المتأزمة، وهذا المؤشر بدأ يتحسن بعد القرارات الصادرة عن قمة العشرين والمتقدم ذكرها.
5 - مؤشر الصين: وقدرة هذه الدولة في مواصلة نموها فوق مستوى 6 في المئة حيث إن تراجع النمو الصيني يعني تراجع الطلب على المنتجات الصناعية الرخيصة المطلوبة لأغلبية سكان العالم، وهو مؤشر مهم لقياس الاستهلاك العالمي والقوة الشرائية العالمية.
6 - مؤشر نجاح خطط الانعاش الاقتصادي: وبالأخص في الولايات المتحدة، وفي هذا الشأن يراقب العالم معدلات البطالة فيها أو التقارير الدورية التي تكشف عن الوظائف الجديدة في القطاعات الاقتصادية، وحسب التقرير الذي اعتمدنا عليه (البيت العالمي) فما يزال معدل البطالة في أميركا في حدود 8,1 في المئة وهو أعلى مستوى له منذ 25 عاما.
7 - مؤشر تراجع استثمارات الحكومة الأميركية في شركات التأمين والبنوك: وحاجة هذه الشركات لعمليات الإنقاذ الكبيرة والمكلفة، وحسب التقرير فالمتوقع انهيار قرابة (100) مؤسسة مالية حتى نهاية هذا العام، ورغم ضخ مليارات الدولارات من الخزانة العامة لأميركا لإنقاذ هذه الشركات إلا أن من غير المتوقع استمرار هذا التدخل الكبير إلا لعدد صغير من الشركات العملاقة.
مؤشرات أخرى مهمة:
هناك مؤشرات اقتصادية أخرى مهمة لمعرفة مدى جدية السياسات الاقتصادية الأميركية غير أنها لم تراعى خطورتها اتجاه الأزمة الاقتصادية الراهنة باعتبارها أزمات سرطانية لا يمكن التخلص منها على المديين القصير والمتوسط، بل وحتى على المدى الطويل. هذه المؤشرات يتعامل معها العالم المعتمد على الدولار باعتبارها جزءا من الاقتصاد العالمي الراهن، وهذه المؤشرات على النحو التالي (اعتمدنا على دراسة «الأزمة العالمية الراهنة ومصير النظام الرأسمالي للدكتور منير الحمش رئيس مجلس إدارة الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية والمنشورة في مجلة المستقبل العربي، يونيو 2009 حيث اعتمد على تقرير الاقتصادي الأميركي تشارلي كويمبي المنشور في مجلة المستقبل العربي ،العدد 349 مارس 2008م):
تصاعد العجز التجاري الأميركي: حيث لم يسجل الميزان التجاري الأميركي منذ 1971 أي فائض، ووصل العجز إلى 759 مليار دولار العام 2007.
تصاعد عجز الموازنة العامة الأميركية: حيث ارتفع هذا العجز من 455 مليار دولار في العام 2008م إلى 1.2 تريليون دول في العام 2009م، بما يعادل 8.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.
ارتفاع حجم المديونية الأميركية: حيث أظهرت إحصاءات وزارة الخزانة ارتفاع المديونية الحكومية من 4.3 تريليون دولار العام 1990 إلى 8.4 تريليون دولار العام 2003، وإلى 8.9 تريليون دولار العام 2007، إضافة إلى ديون الشركات والأفراد حيث وصلت مديونية الأفراد في أميركا إلى 13 تريليون دولار، وهو ما يقارب الدخل القومي لأميركا، ووصلت ديون الشركات الأميركية إلى 18.4 تريليون دولار، وفي المحصلة فإن مجموع الديون الحكومية والخاصة وصل إلى 40 تريليون دولار، أي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي.
تصاعد الإنفاق العسكري: حيث ارتفع إلى معدلات غير مسبوقة لا تظهرها الموازنة المعلنة للبنتاغون، ويكفي الإشارة إلى أن موازنة الرواتب في البنتاغون العام 2008 وصلت إلى نحو 482 مليار دولار.
النظام الاقتصادي
العالمي المتجدد
المتوقع بعد بروز مؤشرات التعافي والانتقال التدريجي من الأزمة إلى الاستقرار أن يتم تنفيذ آليات الرقابة والشفافية، وإعادة مبادئ الحوكمة وتطبيق قواعدها. فلقد كشفت هذه الأزمة أن الدول الرأسمالية والمختلطة التي طبقت قوانين وآليات صارمة في حقل الاقتراض وتحركات رؤوس الأموال حافظت على أسواقها من الانهيارات الكبيرة وكانت أقل عرضة من الآخرين لخسائر ضخمة، وسوف يعاد الاعتبار لدور الحكومات ومساهمتها بشكل أكبر في التنمية والإنفاق على المشروعات الخدماتية الأساسية ضمن رؤية كينزية متجددة هدفها تحفيز النمو وتوفير فرص العمل.
الحوكمة والشفافية سواء في اختيار مجالس إدارة الشركات المساهمة والمؤسسات المالية ونفقاتها ومكافآتها وقد يمتد تطبيق قواعد الحوكمة حتى على الشركات المقفلة بل والعائلية.
هذه هي ملامح النظام الاقتصادي المتجدد وليس الجديد، حيث ستبقى الرأسمالية مهيمنة وأن أدخلت فيها سياسات الاشتراكية الاجتماعية والتي هي فعليا مطبقة في بعض الدول الرأسمالية الاسكندينافية الناجحة
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 2473 - السبت 13 يونيو 2009م الموافق 19 جمادى الآخرة 1430هـ