هل عاد «فعل» الخطابة السياسية ليستقطب الوهج الإعلامي والالتفاف الجماهيري حول المنابر، المحلية منها، والعالمية، في آن؟ وهل تقدُّمُ الرئيس الأميركي باراك أوباما كخطيب استثنائيّ في تاريخ الزعامات الدولية عامة، والأميركية على وجه الخصوص، من شأنه أن يشجّع على الدور الاستيتكي - اللغوي لبلاغة «النص» وفصاحة «السياسيّ» في إشاعة مناخات السلام والحوار والتوافق بين شعوب الأرض قاطبة؟
الجواب قد يأتي إيجابا - في نظر بعض المحلّلين والمراقبين السياسيين - وذلك في مشهدين متباعدين - في تقديري على الأقل - أولهما حدث دوليّ بامتياز، وهو الخطاب التاريخي الذي ألقاه أوباما تحت قبة جامعة القاهرة العريقة في الرابع من يونيو/ حزيران الجاري، حيث اختار منبرا معرفيا وثقافيا ليكون موقعا رمزا للحوار مع العالم الإسلامي؛ وذلك في مسعى حثيث من الإدارة الأميركية الجديدة لترويج أجواء الشراكة والتآلف مكان نوازع الانفصال والصدام بين العالمين الأميركي من جهة، والإسلاميّ/ العربيّ، من أخرى.
الإضافة «الثقافية» التي برزت في خطاب أوباما - الحدث، والتي تُسجّل له ولمستشاريه الثقافيين، استشهاده بالتسامح الديني بين الأديان السماوية الثلاثة، الذي كان قائما في دولة الأندلس، دولة الجذب والانتشار الثقافيين التي تشكّل المفرق التنويري في التاريخ الإسلامي، والتي عمرت 8 قرون، بين ما يقارب 750 و1550م، وقامت على فتوحات ترفعت عن أعمال استهداف العُزل، أو نهب الخيرات، أو اقتراف التطهير العرقي والاضطهاد الديني؛ في رقعة جغرافية هي في العمق من طريق الحرير، الذي وصل الشرق والغرب، وشكل ملجأ لثقافات عالمية قاطبة، ومرجلا لتلاقيها مع الثقافة الإسلامية.
أما المشهد الثاني الذي يؤكّد على فعل «سلاح» الكلمة الحرّة في مقاومة قوى الظلام والانكفاء والتطرّف، فقد كان مسرحه مناطق القبائل الباكستانية الحدوديّة مع أفغانستان، وأبطاله أدباء وشعراء ومغنّون أقاموا حفلا في مدينتهم باره جنار - والاسم يعود إلى شجرة تتميّز بها المنطقة - وذلك لإحياء جهود السلام وإشاعة روح الأمن في المدينة إثر مجموعة من العمليات الإرهابيّة تعرّضت لها المنطقة، كان آخرها تفجير انتحاريّ في العام 2008؛ الأمر الذي أثار الفرقة والانقسام والتوجّس بين أبناء البلد الواحد، وأدّى إلى تراجع ملحوظ في دخولهم التي كانت تزدهر في المواسم السياحية، ما قبل انتقال موجات العنف والتطرّف الدينيّ إلى مناطقهم.
هكذا خرج شعراء باره جنار عن صمتهم، واتّخذوا من جمال الشعر ولغة الفن سلاحا لمقاومة الظلاميّات ومطبّات الجاهليين والسلفيين. أحدهم استعاد في أبياته السلام الذي اندثر مع تقدم نوازع التعصّب والكره والترهيب بين أبناء البلد الواحد، ونعى في قصائده غناء الطيور الذي تحوّل في نظر الأصوليين إلى جريمة ينكرها الإسلام؛ والشجر الذي يُنحر واقفا ويتحول إلى حطب في موقد أمراء الحرب.
وهكذا توجّه أوباما، من معقل الاعتدال الإسلاميّ الأزهريّ، بخطاب مستجدّ اللغة والمصادر، بما لم نعهده في التاريخ السياسي الأميركي بخاصة، والغربي بشكل عام؛ في لغة تصالحيّة تستعيد استضاءات التاريخ الإسلاميّ في عصره التنويريّ، وتنبذ مظاهر العنف والتشدّد في الماضي والحاضر، في آن.
شعراء باكستان، وسيّد البيت الأبيض، يجتمعون - على تواضع الحراك السياسي في سهول باره جنار مقارنة بالمكتب البيضاوي - على أن إغناء الحوار والتقارب الثقافيين بين الشعوب هو الطريق الأمثل لرأب الهوّات، واستعادة الثقة، ودحر العنف، وإشاعة أجواء السلام، محليّا كان أم كونيّا! فهل من مستجيب؟!
*باحثة أميركية من أصل سوري، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2472 - الجمعة 12 يونيو 2009م الموافق 18 جمادى الآخرة 1430هـ