قبل الحديث عن خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في القاهرة الموجه للعالم الإسلامي والذي ألقاه في جامعة القاهرة يوم 4 يونيو/ حزيران 2009، لابد من الإشارة إلى مجموعة من الملاحظات العامة والخاصة بموضوع حقوق الإنسان:
1 - إن قضية حقوق الإنسان من أصعب القضايا وأكثرها تعقيدا لتداخل العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وسياسات الأمن الوطني.
2 - إن قضية حقوق الإنسان تواجه أصعب نقدٍ لها وهو التسييس والمعايير المزدوجة وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
3 - إن مبادئ حقوق الإنسان بعضها عام ومتفق عليه مثل الحق في الحياة، الحق في الأمن، الحق في المشاركة السياسية، وبعضها خاص ومختلف عليه مثل معظم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بين التجمعات الدولية لاختلاف توجهاتها ومصالحها.
4 - إن الدول النامية عموما والدول العربية خصوصا، ركزت على ما يعرف بالخصوصية الثقافية وهذه حقيقة واضحة تنبع وترتبط بتطور أجيال حقوق الإنسان كما ترتبط بمرحلة التطور التاريخي للمجتمعات. ولكن المشكلة تكمن في أن تتحول الخصوصية لتعني تجاهل المبادئ العامة التي ارتضتها كافة المجتمعات عبر العصور بما فيها العقيدة الإسلامية السمحة والحضارة الإسلامية في عصورها المزدهرة.
5 - إن حقوق الإنسان هي ثقافة مجتمعية، وسلوكيات نظم وجماعات وأفراد، قبل أن تكون نصوصا قانونية. فأوروبا تطورت مفاهيمها المجتمعية وأنظمتها السياسية والعلاقة بين سلطاتها وطبقاتها الاقتصادية والسياسية فيما يتعلق بالمفاهيم الأساسية الخاصة بحقوق الإنسان قبل أن تتبنى إصدار المواثيق الدولية المعروفة.
6 - إن مفهوم الخصوصية الثقافية ليس حكرا على المجتمعات العربية والمجتمعات النامية بل نشأ في أوروبا والولايات المتحدة في إطار الاختلاف بين المدرستين الواقعية والبراغماتية. ومن وجهة نظري أن هذا المفهوم لا ينبغي أن يتعدى أمرين:
الأول: رفض الدول الإسلامية تطبيق بعض المفاهيم الحقوقية الجديدة في المجتمعات العربية والإسلامية مثل حقل الزواج المثلي أو الممارسات المثلية أو إلغاء عقوبة الإعدام ونحو ذلك، وهذا موقف منطقي فهذه مفاهيم حتى بالنسبة لكثير من الدول الغربية لا تزال موضع خلاف.
الثاني: ضرورة مراعاة مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي ورفض سياسة حرق المراحل بالنسبة للتطور السياسي لاختلاف الثقافة والنظرة بالنسبة للأقليات وسلوكياتها والأحزاب ودورها والحق في الإضراب وكيفية ممارسته. فالاختلاف هنا حول أسلوب التطبيق وليس حول جوهر الحق.
7 - النقطة الجوهرية في تحليل وضع حقوق الإنسان في المنطقة العربية والصورة السائدة عن حالة المنطقة ومدى تفاعلها مع قضايا حقوق الإنسان هي أن لهذه المنطقة سمات أساسية منها:
الأولى: إنها أكثر مناطق العالم تخلفا في مجال احترام حقوق الإنسان.
الثانية: إن بعض النظم السياسية العربية لا تزال تعيش في فكر سياسي قديم حيث ترفض المشاركة السياسية من قبل قوى المجتمع، وتعتبر السلطة حقا إلهيا لها، رغم تصريحاتها وإعلاناتها بغير ذلك. ولكن العبرة بالسلوك الحقيقي وليس بالتصريحات والنصوص الدستورية.
الثالثة: إن المعاناة السياسية تجاه مواقف القوى الاستعمارية قديما وحديثا دفعت بعض الفصائل الإسلامية الهامشية للتطرف، وللأسف لم تقم كثيرٌ من القوى المعتدلة والعقلانية بنصحها النصيحة الحقة بل كان رد الفعل هو أنها إما تعاطفت معها أو لزمت الصمت.
الرابعة: إن العقيدة الإسلامية كما عبّر عنها القرآن الكريم وأحاديث النبي (ص) وكذلك سلوك خلفائه الراشدين الأجلاء وكذلك النصوص الدستورية، أكثر تقدما من الفتاوى الشرعية التي سادت في عصر تراجع ثقافي وفكري وإسلامي في المنطقة الإسلامية فيما يمكن أن نطلق عليه عصور الظلام والظلم في تلك المنطقات، حيث بعض الفقهاء الأجلاء أمثال أبوحنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهما تم سجنهما وتعذيبهما من قبل رجال الحكم عندما تدخل العامل السياسي للسيطرة على الفكر الديني الصحيح، وساد فكر التشدد والعداء تجاه الآخر بل وتجاه النفس وعدم الثقة بالذات، ما أدى لانغلاق فكري وديني والاحتماء في التشدّد للرد على اعتداءات الصليبيين أو المغول أو غيرهم على الحضارة الإسلامية. وكان يمكن أن تتيح النظم السياسية الفرصة للفقهاء والعلماء الذين أعلوا من قيمة العقل أمثال ابن رشد لكي يقدموا لنا فكرا دينيا مستنيرا، وفلسفة سياسية فاعلة، للرد على المعتدين على الديار الإسلامية بدلا من ترك الأمر لفكر التطرف والعنف والكراهية الذي عبّر عنه فقهاء آخرون، وهو الأمر الذي كرّره بعض الفقهاء وأنصاف الفقهاء في عصرنا الحاضر.
خذ مثالا على ذلك كثيرا من فتاوى الفضائيات، بل وفتاوى بعض العلماء ذوي الاتجاهات المتشددة، في حين أن الرسول الكريم أكد على أن هذا الدين يسرٌ فأوغل فيه برفق، وما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، كذلك آيات القرآن الكريم عديدة في هذا الصدد.
الخامسة: إن ثمة ما يشبه الاستقطاب ومن ثم الرفض بين عناصر الفكر الديني المتشدد وبين متطلبات العصر. فبعض رجال الدين يستفيدون من مخترعات العصر مثل السيارة والطائرة والهاتف النقال والتلفزيون، ويرفضون قيمه الإنسانية، وثقافته الانفتاحية، وفكره المتعدد. وهذه القيم والسلوكيات، في جوهرها، هي قيم إسلامية، فإتقان العمل والابتعاد عن الكذب والفساد والاهتمام بالعمل والعلم والإبداع العلمي والسلوكيات الحميدة، هي جزء لا يتجزأ من القيم الإسلامية، وكذلك احترام الآخر المختلف دينيا أو طائفيا أو فكريا أو سياسيا.
إن هذا السلوك غير الرشيد أساء أبلغ إساءة للعرب والمسلمين، وخصوصا لرفض بعضهم مفاهيم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بدعوى وفهم خاطئ بأنها غريبة ولم يقرأ بعضهم بإمعان خطبة الوداع للنبي الكريم التي تناول فيها حقوق الإنسان ولا مقولته عن حلف الفضول، ولم يدرسوا تصرفاته وسيرته العطرة في المصادر الموثقة وكيف تعامل مع أعدائه، وكيف سامح المشركين بعد انتصاره العظيم في فتح مكة، وقال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». بل وأعطاهم الأمان بقوله من دخل بيته وأغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. هل بعد هذا القول والسلوك العلي من تسامح وعفو وصفح عند المقدرة؟
السادسة: إن بعض الجماعات والجمعيات الحقوقية تخلط المفاهيم الحقوقية مع البرامج السياسية للأحزاب أو الجمعيات، هذا الخلط يسيء للمفاهيم، ويؤدي في أحيان كثيرة للتصادم مع السلطة، وجعل جمعيات حقوق الإنسان معبرا ضمنيا وغير مباشر عن الأحزاب السياسية. ومن الضروري التنبه واليقظة لتجنب الوقوع في مثل هذا المنزلق. ومما يذكر أن هذا الخلط تقع فيه منظماتنا الحقوقية وليس المنظمات الحقوقية الأوروبية أو الأميركية.
السابعة: إن بعض جمعيات حقوق الإنسان ترتبط بالخارج في تمويلها، وربما في أجندتها أيضا وهذا يضعف صدقيتها ويثير الشكوك والشبهات حولها. ولذلك من الضروري تحاشي ذلك أو الحدّ من آثاره عند الضرورة له حتى لا تتحول منظماتنا الحقوقية والعربية لكي تكون معبّرة عن أجندة خارجية لا تتبع أوطانها ولا تعكس تطلعات ومصالح شعوبها.
والآن نتناول النقاط الرئيسية في خطاب الرئيس الأميركي أوباما والذي كان حريصا على الإشادة المطولة بالحضارة الإسلامية ودور المسلمين في المجتمع الأميركي المعاصر.
تضمن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي ووجهه للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة قضايا سبعا، وفي تقديري أن تلك القضايا جميعا تصبّ في خانة الاهتمام بحقوق الإنسان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهي:
أولا: الارتباط غير المباشر يتمثل في النقاط المتعلقة بـ:
1 - التطرف وآثاره السلبية. وكما هو معروفٌ فإن التطرف من الخصال المذمومة والإسلام نهى عن ذلك وهذا التطرف يتعارض مع الإيمان بالاعتدال وحرية العقيدة وحرية التعبير عنا.
2 - الوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين العرب، وهذا الوضع يتعلق بحق تقرير المصير وحق اختيار النظام الأساسي الذي يناسب كل مجتمع. ورغم أن أوباما لم يشر صراحة إلى مصطلح حق تقرير المصير إلا أن المعنى واضح في تأكيده على الدولتين وحق الشعب الفلسطيني أن تكون له دولته المستقلة.
3 - التوتر المرتبط بالأسلحة النووية، وهذه النقطة تتعلق بحق الشعوب في الاستفادة من نتائج التطور العلمي والتكنولوجي طالما أن ذلك في إطار الاستفادة السلمية للبشرية من ذلك.
ثانيا: الارتباط المباشر يأتي في القضايا الأربع التالية:
1 - الديمقراطية ومن مظاهرها الانتخابات السلمية، حق الشعوب في اختيار حكامها، حق المواطنين في المشاركة السياسية، احترام القانون، الحق في العدالة، الحق في المساواة.
2 - الحرية الدينية، وهي من الحقوق الأساسية للإنسان في اختيار الدين أو المذهب أو عدم الانتماء لأي دين أو مذهب.
3 - حقوق المرأة في التعليم والعمل والمشاركة السياسية، فالمرأة هي نصف المجتمع ودورها لا يمكن إنكاره وإلا تخلف المجتمع تخلفا كبيرا وفقد مساهمة نصف أعضائه.
4 - التنمية الاقتصادية وتنمية الفرص، وقد عالج أوباما في هذه النقطة أثر العولمة على التمتع بحقوق الإنسان، الحق في العمل، الحق في التنمية، الحق في العلاج، حقوق الطفل.
ويلاحظ في هذا السياق ما يلي:
1 - إن الرئيس الأميركي أوباما جمع بين الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان فتحدث عن الحقوق المدنية والسياسية، وعن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعن الحق في التنمية والعلاج وغيره من حقوق الجيل الثالث، وهذه أول مرة يتحدث فيها مسئول أميركي عن الحقوق الاقتصادية والحق في التنمية وهو الأمر الذي لم يكن الفكر العربي يراه من الحقوق.
2 - أكد أوباما بصراحة ووضوح، في الخطاب وفي مناسبات أخرى، أنه لا يمكن فرض نمط معين من الديمقراطية أو من النظام السياسي على الشعوب التي يجب احترام تقاليدها وثقافتها.
3 - إن حقوق الإنسان هي حقوق عامة وليست غربية أو دخيلة على الحضارة الإسلامية، مستشهدا بالعديد من الآيات القرآنية، وهذا يتماشى مع ما أشرنا إليه في بداية هذا المقال.
والخلاصة أن هذا نمط جديد من الفكر والسلوك الأميركي على مستوى القيادة السياسية العليا، فهل ندرك - نحن شعوب وحكام - أن العالم تغيّر وأن الزمن تغيّر وأن قضية حقوق الإنسان أصبحت من أبرز وأهم قضايا العصر وخصوصا في القرن الحادي والعشرين؟ وهل يمكننا التصرّف على نحوٍ يتواكب مع مقتضيات العصر حتى لا نظل مهمّشين في عالمنا المعاصر، وحتى لا تظلّ صورتنا سيئة، وأننا من أكثر مناطق العالم تخلفا عن فكر ومفاهيم وسلوكيات حقوق الإنسان؟
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2470 - الأربعاء 10 يونيو 2009م الموافق 16 جمادى الآخرة 1430هـ