تعد الانتخابات بشتى أنماطها من تشريعية، جماعية ومهنية... فرعا أساسيا في العلوم السياسية، فالديمقراطية من دون انتخابات لا تعدو أن تكون مفاهيم مجردة وشعارات فارغة تستهدف التضليل الفكري والسياسي. وإذا كان الانتخاب يفيد الاختيار في منطوق دلالته المصطلحية، فإن معناه أكبر من ذلك على مستوى الدلالة السياسية والقانونية. فالفعل الانتخابي كما يقول المفكر محمد عابد الجابري يستوجب مجالات عدة للتصرف الحر، فلكي تمارس الجماهير حقها بكل حرية وعلى أسس ديمقراطية يجب أن تكون حرة حقيقة لا مجازا. بمعنى أن تريد وتعرف ما تريد ولماذا تريد، وتملك القدرة على تحقيق الذي تريد. فهل الكرنفالات الانتخابية المتوالية منذ عدة عقود في المشهد المغربي أتاحت الفرصة لذلك؟
إن قراءة السلوك الانتخابي المغربي في تقاطعه مع النسق السياسي لن تكون سليمة إلا بموقعتها - القراءة - في الدائرة المناسبة لهذا السلوك المتسم بالطابع المغربي الخاص، الذي تساهم كل الأطراف (سلطة، أحزاب، مجتمع مدني) في إضفائه على كل عرس انتخابي، فالسلطة مثلا كانت دائما ذات إستراتيجية خاصة في كل المواسم الانتخابية التي عرفها المغرب على امتداد الخمسين سنة الماضية تتمثل في فعل الاختراق لرسم الخطة وتوجيه مسار اللعب وفق ما يحافظ على مكاسبها، بدل بقائها خارج ميدان اللعبة كما تستلزم أعراف الديمقراطية. فمن لا يذكر تجارب مثل جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية ¬1963 وتجربة التجمع الوطني للأحرار 1977 و تجربة الاتحاد الدستوري 1984 وتجربة الحركة الديمقراطية الاجتماعية 1997 وأخيرا تجربة صديق الملك وحزب الأصالة والمعاصرة 2007 وكلها استنساخ لما سلف من دون أي تجديد أو ابتكار يذكر لا من قبل مؤسسين الظل أو الواجهة. ولا شك أن هذه التجارب تحمل من الدلالات ما تنوء عن حمله هذه مقالة من هذا الصنف الذي نقدمه.
إنها معضلة تضاف إلى جملة من الأعطاب من قبيل بلقنة المشهد الحزبي، غياب أقطاب وكتل سياسية تقوم على أساس البرامج، الدعارة السياسية وشراء الذمم،... التي تعتري العملية الانتخابية التي تعد عصب الديمقراطية. بيد أن كل هذا ليس مانعا من محاولة تحليل الفعل الانتخابي للوقوف على مضمون الثقافة السياسية المسيطرة من جهة، وكشف طبيعة النخب التي وصلت إلى مدارج السلطة عن طريق هذا النمط من السلوك. إن هذا الأخير ـ كما يقول السوسيولوجي المغربي عبد الرحيم العطري في كتابه صناعة النخبة بالمغرب ـ لا ينبني على معطيات علمية ورؤى تقييمية للبرامج الحزبية المطروحة في حلبة الصراع الانتخابي، بل يتبلور وفق معايير العقل الجمعي وبصمات التنشئة الاجتماعية. أضف إلى هذا أن الاقتراع لا يكون على أحزاب وبرامج وإيديولوجيات وتوجهات بل يكون على أساس محددات تقليدية من قبيل العصبية القبلية والانتماء وشراء الأصوات.
معطيات إلى جانب أخرى تستدعي القطيعة مع كل ما له صلة بها والسعي نحو التأسيس لحكامة انتخابية جديدة، التي إذا كانت تعني بمدلولها الواسع حتمية وضع الإطار المناسب في المكان المناسب في الوقت المناسب، فإن مضمون الحكامة الانتخابية يعني أكثر من ذلك بالنظر لأهمية هذا الفعل في مسار الديمقراطية. ما يستدعي تحويل الانتخابات من عنصر ناظم للحياة السياسية يفتقد لأدنى المقومات إلى سلوك وثقافة هما الكفيلان بتحويل مقولة حكم الشعب نفسه بنفسه من شعارات ومفاهيم مجردة إلى واقع حي ملموس، يحتكم إليه على أساس تنافس حر وشريف للأشخاص والهيئات والبرامج والرؤى المجتمعية. وقبل ذلك إعادة نحث مفهوم جديد للمواطنة يحمل في طياته جملة تلكم الواجبات والحقوق المتبادلة بين الدولة والمواطن، والرامية إلى إقامة تجربة جديدة واعية للحيلولة دون استمرار هذا العبث الانتخابي والتأسيس لثقافة انتخابية جادة وفاعلية.
إنها جملة من المرامي الأساسية لإقامة سلوك انتخابي بديل، بيد أن جوهر هذا التأسيس والعمود الفقري له يكمن في القوانين المؤسسة «للعبة الديمقراطية» فالدستور المغربي لسنة 1996 المؤطر للمشهد السياسي، والذي تتعالى الأصوات بتعديل بنوده لا يسمح في جوهره بإقامة ديمقراطية. وأمام الإكراهات الدستورية والإكراهات العالمية وموجة العولمة المتسمة بالتغيير السريع مضطر إلى إعادة النظر فيها بين الفينة والأخرى لإحياء تيمة الليبرالية داخلها، من دون أن تكون له الإدارة على تغيير هذه الترسانة من القوانين لإعادة رسم قواعد اللعبة من جديد وفق تشريعات ليبرالية تتناسب مع الظرفية الراهنة. فإعادة الثقة والصدقية والحنينية المفقودة للعمل السياسي بالمغرب رهين بجملة من التحديات منها ليبرالية التشريعات، احترام إرادة المواطن، تخليق المشهد السياسي المغربي والقطيعة مع كل الدعاوى الرامية إلى الفصل بين السياسة والأخلاق.
يبدو جليا أن النسق السوسيو سياسي بالمغرب محتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة مراجعة جل العوامل المساهمة فيه بغية إقامة فلسفة تؤسس لفعل انتخابي يسمو إلى مستوى القدسية للمساهمة في تشيد مغرب اجتماعي حداثي ديمقراطي.
* باحث في العلوم القانونية والاجتماعية من المغرب، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية
www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2469 - الثلثاء 09 يونيو 2009م الموافق 15 جمادى الآخرة 1430هـ