الرغبة في العيش مع المثيل رغبة متمكّنة ومتجذرة لدى البشر، إلا أنها قد تنقلب، في أية لحظة، لا إلى رغبة في الانفصال عن الآخر المختلف فحسب، بل إلى هوس بتطهيره وإبادته ومحوه من الوجود. وبما أن البشر عاجزون، حتى الآن، عن كبح هذا الرغبة العنيدة، فإن مستقبل البشرية لن يكون أكثر إشراقا من ماضيها، ولا أكثر هدوءا منه، وسيبقى ضجيج التطهير والإبادة والتهجير صاخبا طالما عجز البشر عن كبح رغبتهم العنيفة في العيش مع مثيلهم بأي ثمن.
تصور أمين معلوف وأمارتيا صن أن الحل يكمن في تخليص الهوية من نزعتها القتالية والعدوانية. ويتأتّى ذلك بتحريك الانتماءات المتنوعة أو الهويات المتعددة الكامنة داخل كل هوية، وبتجاوز المقاربة الانعزالية والحتمية التي تختزل التنوع في انتماء مفرد وحتمي. إلا أن المشكلة تكمن في أن الهوية تقوم، في جوهرها، على نزعة قتالية ضمنية متجذرة؛ والسبب أن الهوية تتأسس على المسافة الواقعية أو المتخيلة بيننا وبين الآخرين. وتؤمِّن هذه المسافة للبشر أن يشعروا بالأمان والاطمئنان في العيش مع مثيلهم، كما تؤمّن لهم أن يرتكبوا أبشع الجرائم ضد الآخرين من دون أن يشعروا بتأنيب الضمير، ومن دون أي يرفّ لهم جفن. نيتشه كان على وعيٍ بفعالية هذه المسافة وراحة الضمير التي تؤمنها لأصحابها، فـ»الإحساس الوراثي لدى الأعلى مقاما بأن له حقوقا أسمى يجعله لا مباليا ومرتاح الضمير، بل إننا جميعا، حين يكون الفرق شاسعا بيننا وبين كائن آخر، نفقد أدنى إحساس بالظلم ونقتل ذبابة مثلا من دون أي تبكيت للضمير». فالمسألة إذن لا تتعلق بالنزعة القتالية والعدوانية التي تفقد الهوية، بفضلها، «أدنى إحساس بالظلم والقتل» الذي ترتكبه بحق أبناء الهويات الأخرى، بل إن المسألة تتعلّق بالمسافة التي تخلق «الفرق الشاسع» بيننا وبين الآخرين. وهذه المسافة هي التي تؤمّن لنا راحة البال وغفوة الضمير حين نمارس الظلم أو القتل بحق الآخرين، فنقوم بذلك كما لو كنا نقتل ذبابة أو نظلم نملة حين ننتزع منها حبة السكر التي التقطتها!
تقوم الهوية، أساسا، على هذه المسافة، مما يعني أن النزعة القتالية والعدوانية مقوم أساسي من مقومات أية هوية، وأنه لا سبيل لانتزاع العدوانية من الهوية إلا عبر تذويب المسافة التي تجعل الفرق شاسعا بيننا وبين الآخرين. وتذويب المسافة قد يقضي على «الوحش» الكامن في كل هوية، إلا أنه سيقوّض الهوية ذاتها، الهوية بالمعنى الخصوصي، وذلك من أجل إفساح المجال لتأكيد هويتنا الإنسانية المشتركة.
هذا، بالطبع، مطلب مثالي، وقد فكّر به كثيرون من قبل، من بين هؤلاء برتراند رسل الذي اعتبر الحرب والمقاتلة غريزة متجذرة في الحياة البشرية، حيث «يميل الإنسان غريزيا إلى تقسيم البشرية إلى قسمين: أصدقاء وأعداء»، فينخرط في علاقات انتمائية مع الأصدقاء، وفي حرب مستمرة مع الأعداء. إلا أن المحيّر في هذه الظاهرة أن البشر يحتاجون إلى العدو باستمرار من أجل تأمين وحدتهم الداخلية؛ لأن «العدو المشترك الخارجي يعمل باستمرار على وحدة من يناوئه». هذا يعني أن تحقيق وحدة الجماعة مرهون بوجود عدو مشترك. ويمكن أن تنتفي الحاجة إلى العدو، وذلك في حال أدرك البشر أن بينهم جميعا قواسم مشتركة، وأنهم يلتقون في هويتهم الإنسانية المشتركة، إلا أن هذا الإدراك الذي سيتسبب في اختفاء العدو، سيتسبب، كذلك، في انتفاء الحاجة إلى الروابط التي تؤمن وحدة الهوية الإنسانية المشتركة، حيث سيؤدي اختفاء العدو (الآخر) من الوجود إلى انتفاء الحاجة إلى الصديق ووحدة الجماعة. يقول رسل: «إن هذه الظاهرة تجعل من الصعب على المرء أن يتخيل وسائل لجعل العالم وحدة متقاربة. فإذا أصبح العالم بأسره دولة واحدة، انتفى وجود العدو الخارجي الذي يؤدي الخوف من وجوده إلى زيادة روابط أفراد الدولة».
ولكن، هل اختفاء العدو يعني انتفاء الحاجة إلى الحرب؟ قد يفهم من حديث رسل أن اختفاء العدو سوف يتسبب في اختفاء الحاجة إلى الحرب، إلا أن رسل نفسه يعي أن الحرب «غريزة إنسانية موروثة»، وأن كل ما نستطيع تجاه هذه الغريزة هو التفكير في منافذ أخرى لإشباعها في حال انتهت الحروب. ويعتقد رسل أن «بالإمكان التعويض عن غريزة المقاتلة بقراءة قصص المخاطرات وما شابهها». والحق أن «الدولة العالمية» لن تكون مضطرة للبحث عن منافذ ملائمة لإشباع هذه الغريزة؛ لا لأن قراءة المخاطرات «قد لا تلائم الكثيرين» كما يقول رسل، بل لأن البشر لن يكفّوا عن الحرب والمقاتلة والمنافسة مع آخرين يخترعون عداوتهم اختراعا. وحتى حين يدرك البشر إنسانيتهم المشتركة ويكوّنوا «دولتهم العالمية»، فإنهم لن يضطروا للبحث عن أعدائهم من بين الحيوانات أو المخلوقات الفضائية التي ستأتينا من عوالم أخرى، بل سيعمدون إلى اختراع عدوهم من بني جلدتهم وضمن محيط «دولتهم العالمية»، ولن يكون عصيا عليهم أن يطردوا مجموعات كبيرة من بني البشر خارج إطار هذه الإنسانية المشتركة بحجة أنهم «برابرة» أو «همج رعاع» أو «بهائم هائمة»! عرف تاريخ البشرية حضارات وأديان عالمية كثيرة سبق لها أن طوّرت أفكارا جنينية أو ناضجة حول «الأخوة الإنسانية» وحقوق الإنسانية المشتركة، إلا أن هذا لم يكن كافيا لكبح غريزة البشر الشريرة في الحرب والعنف والعدوان ضد الآخرين، مرة بحجة أنهم ينتمون إلى حضارات بدائية «متخلفة»، وأخرى بحجة أنهم ينتمون إلى أديان باطلة ومزيّفة.
إلا أن الخروج من هذه الدوّامة الشريرة ليس مستحيلا. ولكن سيكون على أصحاب «الهويات القاتلة» أن يتفكروا قليلا لا في «الأخوة الإنسانية» التي تجمعهم مع البشر أجمعين، ولا في القواسم المشتركة التي يمكنهم اكتشافها مع آخريهم فحسب، بل في حقيقة أن العنف الذي ينطلق بغاية إبادة الآخر ومحوه من الوجود ليس أكثر من فعل عبثي يخفق، حتما، في نيل مطلوبه. أراد النازيون أن تكون ألمانيا للجرمانيين فقط، وألاّ يبقى على أرضهم من اليهود «ديّارا». وورث الإسرائيليون هذه الرغبة فأرادوا أن تكون دولتهم لليهود فقط، وفي المحصّلة النهائية، لا النازيون نجحوا في قطع دابر اليهود لا من الوجود ولا حتى من ألمانيا، ولا الإسرائيليون ظفروا بغايتهم في استئصال الفلسطينيين لا من الوجود ولا حتى من دولتهم «اليهودية». ولا أتصور أن ثمة شعبا في التاريخ انقرض من الوجود بسبب إبادة جماعية، فالبوسنيون لم ينقرضوا من الوجود بسبب المذابح الجماعية الفظيعة التي ارتكبها بحقهم الصرب، كما لم تتمكن «مذبحة الأرمن»، في العقد الثاني من القرن العشرين، من محو ذكر الأرمن من الوجود. تتسبّب الإبادة الجماعية، حتما، في تقليل أعداد الجماعة، إلا أن الجماعة تعود للتكاثر من جديد وبوتيرة متسارعة. لم يحدثنا التاريخ عن إبادة جماعية تامة ومحكمة نجحت في المحو الكلي لشعب ما. الأمر الذي يعني أن الإبادة، في جوهرها، فعل عبثي، صحيح أنه عنيف ودموي وينتزع من المستهدفين به ثمنا باهظا ومؤلما، إلا أنه يخفق دائما في إصابة هدفه!
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2468 - الإثنين 08 يونيو 2009م الموافق 14 جمادى الآخرة 1430هـ