هل العالم الإسلامي أمام أميركا جديدة أم رئيس جديد للولايات المتحدة؟ خطاب باراك أوباما من القاعة التاريخية في جامعة القاهرة خارق للعادة في توجهاته الثقافية والأخلاقية والإنسانية لأنه فاق مختلف التوقعات بشأن تلك الرسالة التصحيحية التي وعد الناخب الأميركي بها حين كان ينافس خصمه الجمهوري على موقع الرئاسة. فالخطاب شكل علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي لما تضمنه من فقرات أدبية أرسلت إشارات واضحة عن التسامح والتعايش والتعارف والتنوع والاعتراف والتعدد والتقدم والشراكة الإنسانية والمعاشية وما تقتضيه ظروف الحياة من شروط لتقبل الآخر المختلف في عاداته ولغته وتقاليده وأنماط سلوكه.
خطاب أوباما في جانبه الإنساني والثقافي والمعرفي والتاريخي حدد تلك النقاط المشتركة والجاذبة إلى التقاطع والتلاقي والتفاعل وحق المشاركة في التطور والإنتاج والإبداع والتقدم. والخطاب بهذا المعنى لا يمكن إلا أن يلقى الاحترام والتأييد والتقدير والرد عليه بما هو أفضل. وردود الفعل المباشرة التي علقت على الخطاب بعد دقائق من انتهاء أوباما من إلقاء كلمته جاءت في معظمها مؤيدة لمضمونه الخلقي والراقي في تعامله أو رؤيته لدين كان له دوره المميز في إنتاج وتطوير الحضارة الإنسانية. فالردود كانت تشير إلى نوع من الارتياح والاطمئنان والسعادة لكون الكلام جاء من موقع أعلى سلطة في الولايات المتحدة وهو قيل للتأكيد مجددا على أن ما حصل من توترات أصبح من الماضي ولابد من العمل سوية لتجاوزه نحو خير البشرية.
«أميركا ليست في حرب مع الإسلام ولن تكون كذلك أبدا». فهذا الكلام بيان بإعلان الهدنة والمهادنة وتجميد كل دوافع وذرائع تلك الحملة التي أعلنت من غير وجه حق. «إن أميركا والإسلام لا يقصي أحدهما الآخر ولا يحتاجان إلى التنافس». وهذا بيان آخر بالتوجه نحو الاعتراف والتبادل والتساكن في عالم مشترك يتطلب التعاون حتى يواصل تقدمه نحو الازدهار والعدل. «جئت سعيا إلى بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين في العالم». وهذا تأكيد على أن واشنطن تطمح بغلق صفحة وفتح صفحة بقصد تأسيس مواقع انطلاق تسمح بالتفاهم والتلاطف وعدم الانسياق وراء العنف أو عدم الانجرار باتجاه استخدام القوة.
خطاب أوباما في جانبه الثقافي- الإنساني يشتمل على الكثير من العناصر التأسيسية سواء على مستوى اللغة أو على مستوى التخاطب. فاللغة رائعة ومضمون التخاطب راق في رؤيته وسعيه نحو السلام العادل. وبسبب هذا الكلام النموذجي في تطلعه إلى المستقبل من دون قطع مع الماضي تعامل الجمهور العربي- المسلم مع الخطاب بإيجابية لا يمكن إلا أن تكون كذلك. فالعالم الإسلامي (العربي) لا يكره أميركا وليس لديه عقدة نقص في تعامله مع نموذجها الخاص. وشعوب المنطقة لا تحسد أميركا وتغار من نجاحاتها وتريد الاقتصاص منها بسبب أحقاد دفينة وكراهية بيولوجية، كما كان يروج «تيار المحافظين الجدد» للتغطية على استراتيجيته الهجومية ومنهج التقويض وسياسة الفوضى ونشر عدم الاستقرار.
جمهور العالم الإسلامي اعتبر أن خطاب أوباما أعطاه حقه في المجالين التاريخي والثقافي وهو أيضا لا يعارض أن يأخذ الإسلام دوره في المجالين الجغرافي والإنساني. فالشراكة كانت أهم عنوان قدمه أوباما للتعاون على صنع المستقبل من دون عقد وادعاءات ومبالغات.
تواضع أوباما وبساطة أسلوبه وسهولة تعامله اجتمعت كلها لترسل إشارة تؤكد على وجود رئيس جديد للولايات المتحدة. والرئيس الجديد لا يكره ولا يحقد ولا يتشاوف ولا يحتقر وإنما يسعى لتصحيح علاقة تحتاج إلى طرف مقابل حتى ينجح في مهمته التاريخية. بهذا المعنى الثقافي - الإنساني نجح أوباما في كسب قلوب جمهور العالم الإسلامي وهذه خطوة لا تقدر بثمن لأنها قد تشكل نقطة بداية تسمح بإعادة تجسير ما انقطع من علاقات بسبب تلك البؤر العنيفة التي انفجرت وانتشرت على امتداد قوس الأزمات من باكستان وأفغانستان إلى العراق ولبنان وفلسطين.
كسب قلوب العالم الإسلامي يشكل ذاك الجانب النفسي المطلوب ثقافيا وإنسانيا في لحظة انتقالية تتطلب الانفتاح لدفع العلاقات نحو طور جديد لتصحيح رؤية تعرضت لقصف ايديولوجي عنيف على فترات متقطعة من العقود الزمنية. ولكن سياسة كسب القلوب تحتاج أيضا إلى توضيح ملابسات تعرضت لها العلاقات على مختلف المستويات. وتوضيح هذا الجانب يؤدي إلى كسب العقول في اعتبار أن المطلوب الآن تصحيح أزمات راهنة تحتاج إلى احتواء ومعالجة حتى يمكن أن تتجاوزها المنطقة.
الجانب السياسي في خطاب أوباما كان أقل من المطلوب قياسا بتلك الرؤية الحضارية التي تعاطى من خلالها مع الحضارة الإسلامية ودورها التاريخي في صنع التقدم الإنساني. فالمطلوب كما يبدو أكبر من قدرة رئيس جديد للولايات المتحدة على تقديمه. وهذا الجانب الخفي من الصورة حاول أوباما مرارا توضيحه حين أشار إلى صعوبات وعقبات وثغرات وأكد حاجته إلى التعاون لتجاوز تلك الحواجز من دون إفراط في التوقعات. فالرئيس الجديد في خطابه التاريخي أبدى استعداده الشخصي للعمل على كسر الكثير من «المقدسات» وتجاوز بعض تلك «المحرمات» لدفع المنطقة نحو الاستقرار الأمني والتنمية المستدامة... ولكن هذا الفعل (الحلم) بحاجة إلى طرف مقابل يمتلك تلك الجرأة التي تسمح له بكسر الحواجز النفسية والتقدم نحو صوغ رؤية متطورة تتناسب مع ظروف الواقع وإمكانات التغيير من دون مبالغة في التوقعات.
ضمن هذه الرؤية الطموحة سياسيا خاطب أوباما الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني للتقدم باتجاه الاعتراف بالحق المتبادل في الوجود والدولتين. رئيس الولايات المتحدة الجديد كان واضحا في خطابه من جانبه السياسي. فهو غمز ونبه من صعوبات تكبل تحركه الميداني وتمنع عنه التقدم بسرعة نحو إعادة هيكلة رؤية تتحكم بها الكثير من القناعات الايديولوجية والمعطيات المصلحية. وبالتالي فهو يطالب بالتفهم وربما المساعدة على تسهيل الخطوات وتوضيح ملابسات المشهد الواقعي حتى يستطيع أن يقوم بمهمته مع الطرف الآخر من الضفة.
الجانب السياسي من خطاب أوباما أوضح معالم غير مرئية في علاقات ملتبسة. فالرئيس الجديد للولايات المتحدة لا يعني بالضرورة أن أميركا جديدة تشكلت على مسرح التاريخ. والتغيير الذي حصل على قمة الهرم لا يؤشر أيضا إلى تغيير مشابه ومعادل قد حصل في قاعدة الهرم.
بين القمة والقاعدة هناك قنوات رأسية تقطعها أفقيا لوبيات ومصالح تمنع حصول ذاك التطابق الطموح بين الجانب الثقافي- الإنساني من الخطاب والجانب السياسي. فالتطابق يحتاج إلى تواصل ويتطلب منهجية عملية تستطيع نقل الحقوق من فكرة متداولة إلى واقع ملموس. وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه من دون وجود طرف مقابل يمتلك الوعي وتلك الشجاعة ويعرف التعقيدات التي تؤخر التوصل إلى حل ثنائي يرضي الطرفين في فلسطين.
الجانب الإسلامي في خطاب أوباما فاق التوقعات واشتمل على نص أدبي متقدم في فقراته الثقافية والإنسانية. وهذا الجانب المتقدم افتقده خطاب أوباما حين انتقل إلى مخاطبة الجمهور في الجانب السياسي (الفلسطيني) والمشكلات الراهنة. والضعف الذي أشار إليه يحتاج فعلا إلى عقول قادرة على السيطرة على القلوب وتطويع المصالح حتى تتموضع مع وقائع لا يمكن التغلب عليها بسهولة.
العالم الإسلامي إذا أمام رئيس جديد للولايات المتحدة... أما أميركا الجديدة فهي تتطلب مشاركة دولية للتوصل إلى إنتاجها. ومثل هذه المهمة التاريخية تحتاج إلى التوسط في رؤية الأمور وإلا فإن العالم سيدخل من جديد في طور آخر من علاقات العنف والانزلاق مجددا إلى سياسة الإفراط في استخدام القوة.
خطاب أوباما التاريخي قد وصل في شقيه الإنساني (القلوب) والسياسي (العقول). هناك من فهمه في جانبيه واقتنع بالرسالة المشتركة، وهناك من اكتفى بقراءة جانب وترك الآخر... وهذه عادة أصحاب الرؤوس الحامية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2465 - السبت 06 يونيو 2009م الموافق 12 جمادى الآخرة 1430هـ