يسكت الجميع عن بعض القضايا المهمة حينا من الزمن، وإذا جاءت الرياح السياسية بما يدفع بالقضايا المغفول عنها كي تطفو على السطح، عندها لا يمكن السكوت عن تعاطيها، والسعي الحثيث نحو ايجاد المعالجات اللازمة لها. من تلك القضايا موضوع وطنية المواطن (العربي او الخليجي او السعودي)، والتي أصبحت مثيرة وحسّاسة بسبب سخونة الأجواء السياسية الآنيّة.
مقياس وطنية المواطن
نشوء العلاقة الاجتـماعية بين أي مجتمع من وطن ما مع مجتمع في بلد آخر واستمرارها أمر طبيعي، على جميع الأصعدة كالتصاهر بين القبائل القطرية والسعودية، أو الكويتية والسعودية أو البحرينية والقطرية، أو العراقية والسعودية... الخ.
وينطبق الأمر ذاته على الترابط الاقتصادي بين مجتمع وآخر، أو تبادل التجارب السياسية والتأثير المتبادل بين الشعوب، كالشعب المصري وجيرانه، أو الارتباط الديني كتأثر المسلمين في موريتانيا بالوضع الإسلامي في السعودية أو مصر، أو تأثر الشعوب الإسلامية ببعضها بعضا، وهذا من الأمور الطبيعية جدا، لذلك من غير المستغرب أن تنعكس الأوضاع السياسية أو الدينية في بلد كأفغانستان على بعض البلاد العربية فتتفاعل شعوبها معها سلبا أو إيجابا وقد ينتقل هذا التفاعل على سطح الوضع الداخلي لكل بلد عربي.
وتحت هذا السقف جاءت الكثير من الانعكاسات في بلادنا وتعاطت معها، مثل ما كانت عليه الحوادث في الستينات والسبعينات من المد اليساري والقومي، وتأثيرات ذلك لم تكن محدودة بمدينة دون أخرى، بل بعضها كان عاما.
ويندرج تحت ذلك الانعكاسات الداخلية مثلما حدث في ثورة إيران الإسلامية العام 1979م. وكذلك عندما تتصاعد وتيرة الحوادث في فلسطين، وأيضا أيام حرب التحرير في الكويت، وأخيرا في عمليات تحرير العراق.
إذا، هذا التفاعل أمر طبيعي علينا ألا نستهجنه، بل نحاول ترشيده واحتواءه. وألا نصطدم معه، بل نتفهمه ونتفاهم معه فيما يشدّ اللحمة الداخلية ويجذر الوحدة الوطنية.
ولكن هل التفاعل الداخلي مع الحوادث الواقعة في المحيط السياسي للوطن يعكس مدى الولاء الوطني للمواطن؟
تقترب أو تبتعد الإجابة على هذا التساؤل من الصواب بناء على الزاوية أو المقياس الذي يعتمده المتصدي للإجابة، فليس من الإنصاف أن يتهم كل من تفاعل أو تعاطف مع حدث سياسي في (أفغانستان، إيران، الكويت، فلسطين، والعراق) بأنه ضعيف أو عديم الولاء للوطن.
ومن المقاييس الأساسية المفقودة عن الولاء للوطن هو (مواقف الأزمات - موقف الأزمة) بمعنى عندما يتعرض وطن ما لأزمةٍ ما في زمان ما، ما يتشكل منه منعطف وتحول مستقبلي، حينها نتساءل كيف سيكون عليه موقف المواطن؟
لذلك من الواجبات الأساسية علينا (حاكما ومحكوما) أن نسعى إلى بلورة مقاييس ثابتة للولاء الوطني، كي نقطع الطريق على جميع أشكال المزايدات البهلوانية تحت مظلة الوطنية.
ما هويتنا الوطنية؟
ومن الأسئلة التي يتعين على الجميع الإجابة عليها لهذه المرحلة والمراحل المقبلة، هل يحمي الـوطن كون المواطن يحمل في جيبه بطاقة أحوال صادرة عن الأحوال المدنية التابعة لوزارة الداخلية؟ هل لحمل المواطن شهادة ميلاد على أرض الوطن تجعله يرفع راية الدفاع عنه؟ ما مظاهر الروح الوطنية؟ كيف نزرع حب الوطن في أفـئـدة الصغار فيشبّوا ويشيخوا عليه؟ هل المواطن نجديّ وهو يسكن الحجاز؟ أم حجازيّ وهو يسكن الدمام؟ وهل كل من يحمل الجنسية لدولة ما يصبح ذا ولاء لها أم هوية رسمية فقط؟ متى يعتبر المواطن مخلا بولائه لوطنه، ومتى يكون وطنيا؟
وهل الطول الزمني لإقامة شخص ما في بلد ما يحتم عليه الولاء لهذا الوطن، أم يسهّل حصوله على جنسيتها فقط؟
من مكونات الهوية الوطنية
كما ينبغي أن نأخذ في الاعتبار بأن حقيقة الروح الوطنية التي يعيشها مجتمعنا السعودي تكونت من مجموعة من الحقائق الواقعية التي لا يمكن التغافل عنها عند وضع مقاييس للولاء الوطني، منها :-
- الانتماء الجغرافي المشترك في شبه الجزيرة العربية.
- الانتماء التاريخي المشترك.
- الانتماء إلى الفكر الديني المشترك (الإسلام).
- الانتـماء إلى مرجعية الدولة الواحـدة (ذات نظام دستوري وقضائي وتعليمي وصحي ووثائقي... الخ).
- الانتماء إلى ثقافة اجتماعية متقاربة (بالمعنى الشامل بما فيها العادات والتقاليد).
ولا تخلو هذه الحقائق من تفريعات نظرية ذات مبررات ذاتية لشريحة اجتماعية دون أخرى، في كل واحد من الاعتبارات أعلاه، إلا أنها باعتبارها كليات عامة تمثل واقعا على الجميع.
الأهداف الوطنية المشتركة
وعندما تتبلور مقاييس الولاء الوطني بالنسبة إلى الأفراد ، فليس من العسير أن يُسترشد ببعضها أو جلّها على وضع المقاييس الخاصة بالولاء الوطني المعنيّ بالشرائح الاجتماعية كمجموعات (قبائل وطوائف وأعراق)، وخصوصا عندما يتعرض الوطن لأزمات داخلية أو أخطار خارجية، وهنا تأتي أهمية التذكير بالأهداف الوطنية المشتركة لجميع الشرائح مهما تنوعت وتفرعت، ومنها : -
- وحدة الوطن (حاكما ومحكوما وأرضا).
- الأمن الوطني والاستقرار السياسي.
- مصالح الوطن (كالثروات والدور المعنوي للوطن داخليا وخارجيا).
- المستقبل والاحتياطات المستقبلية للأجيال القادمة مادية ومعنوية.
أولويات في الثقافة الوطنية
وإذ إن الولاء الوطني غاية أساسية تتحقق من خلالها الأهداف الوطنية المشتركة وتصاغ على صخرة وجودها بآنية النسيج الاجتماعي السليم المكون من جميع الخلايا الاجتماعية (الفرد - الأسرة - القبيلة أو العشيرة - المدرسة... الخ) لذلك تأتي أهمية صوغ الثقافة الوطنية المشتركة، والتي لا تلغي خصوصيات التنوع الاجتماعي الذي يتكون منه المجتمع (كالدين أو المذهب ، واللون أو العرق) بل تجمع بين الاستفادة من تلك الخصوصيات في بث الثقافة الوطنية المشتركة.
وهنا تأتي أهمية إعادة التفكير في صوغ ثقافتنا الوطنية والتي يُشكل خطابنا الإعلامي والتعليمي والديني الآلية الأساسية في تكريسها. وأحسب أن من معالم تلك الثقافة مايأتي:-
- ثقافة الاعتراف بالآخر (الطائفة، المرأة، القبيلة، العشيرة، الأقليات).
- ثقافة التسامح ليس بين الأفراد فقط، بل بين الشرائح الاجتماعية المتنوعة. على قاعدة «قلْ كلٌّ يعملُ على شاكلتِهِ فربُّكم أعلمُ بمَنْ هو أهدى سبيلا» (الإسراء: 84).
- إصلاح الثقافة الدينية التي شوّهها بعضنا (بحسن نية أو سوء نية).
- المحافظة على الهوية التراثية المناطقية لا إلغاءها، كي يساهم في تمسك أهل كل مدينة وقرية بأرضهم ووطنهم عبر الارتباط التاريخي والتراثي (الديني والثقافي) الخاص بهم.
المجتمع بين الجزئي والكلي
ليس من السهل أن يتعايش مجتمع واسع ذو تعددية عرقية وطائفية وقومية كالمجتمع الهندي الذي تسبح في بحره المئات من الطوائف الدينية وتتنوع القوميات والأعراف فيه بشكل مخيف، وبصورة أخرى نجد الأمر ذاته في الموازييك غير المتجانس والذي يعيشه المجتمع الأميركي.
وليس من المستحيل على مجتمعات كالمجتمع الكويتي أو البحريني ألا تتعايش بسبب التنوع الطائفي فقط، بينما هي تعيش ضمن وطن واحد، ويوحّدها دين سماوي واحد، وترتبط بلغة قومية واحدة، وتشترك في عمق تاريخي واحد، وتسبح في محيط جغرافي واحد.
فعندما تجتمع إرادة المجتمع (حاكما ومحكوما) في الصورة الأولى أو الثانية على قاعدة أن تتجاوز كل شريحة اجتماعية أو طائفة دينية حالة الذاتية الضيقة لما فيه خدمة الوطن (وبما يكفل الحد الأدنى من الحقوق الخاصة لكل شريحة وطائفة) حينها يصبح الصعب سهلا في الهند والمستحيل ممكنا في الكويت والبحرين.
بيد أن الكارثة الكبرى تكمن في حصول طائفة أو شريحة معينة من النسيج الاجتماعي على الحد الأعلى من حقوقها الوطنية والتفضيل في التأثير الاجتماعي والثقافي وكذلك القرار السياسي والاحترام والحضور الرسميين بينما بقية الطوائف تعيش على الحد الأدنى من الحقوق الوطنية. وتمييز الجزء مقابل الكل يفرز نتائج عكسية وخيمة كلبنان في سنوات الحرب الطائفية، وتزداد الهوة اتساعا بين الجزء والكل عندما يتعصب الجزء في فكره الديني ويتطرف، وعندما يتسع الخرق على الخارق ولا يتمكن العطار من إصلاح ما أفسده الدهر. فينتج وضع طائفي مقيت يشوّه صورة الوحدة الوطنية ويمزق روحها الجميلة.
والوضع الطائفي حالة واقعية لا يمكن الانحناء لها كي تتمكن من العبور، ولا تعبر بهذه البساطة، وأيضا لا يمكن إدارة الوجه عنها من باب عدم الإقرار بوجودها، وكذلك لا يمكن التعاطي معها بالمثالية الذاتية الحالمة من باب لا يمكننا تغيير شيء فيها، فندعها للزمن. بينما وجودها واقع حقيقي لا مجازي، وقديم بقدم التاريخ الإسلامي.
ويظن البعض خطأ أن الابتعاد عن مناقشة الأمور الطائفية ليس له رابح، بل الكل خاسر لأن هكذا نقاش - في ظنهم - يؤزم المجتمع، ويشغله بما هو في غنى عنه، ويمكن قبول ذلك إذا ما كانت النقاشات في الاتجاه السلبي أو كما حصل في قناة «المستقلة» الفضائية بالخوض في العمق العقائدي لكل طائفة، بينما سيكون الكل رابحا عندما نناقش الأمور الطائفية فيما يخدم المصلحة الوطنية العامة والتغلب على المصالح الطائفية الضيقة تحت مظلة المواطنين سواسية في حقوقهم وواجباتهم الوطنية فيما يتماشى مع التنمية العامة للمجتمع والوطن.
وحساسية الموضوع لا تعني نفيه، بل كلما كان حسّاسا فالحاجة إلى تناوله بحكمة قائمة. فنحن نعيش في عصر يتـم تناول الأمور الحـساسة فيه بجرأة وتعقل مثل حوار الحضارات، حوار الثقافات، التقريب بين المذاهب، الشرق والغرب، المسيحية والإسلام واليهودية.
وعلى هذا التناول ألا يخرج عن دائرة الإجابة على السؤال القائل: كيف نعالج الإشكالات التأزّمية في المحاور الداخلية من أجل الوحدة الوطنية؟
ونحن باعتبارنا شعبا سعوديا تركيبته العامة واضحة، خليط من المذاهب الإسلامية غير المنكَرة في التاريخ الإسلامي (المالكية في الحجاز - الحنبلية في نجد - الجعفرية في الأحساء والقطيف - والإسماعيلية في الجنوب) يجمعها إطار عقائدي عام وهو الدين الإسلامي.
ومن نعم الله سبحانه وتعالى على عباد هذه البلاد أن الوضع الطائفي لم تتصاعد وتيرته إلى درجة الغليان المؤدية إلى العنف الطائفي، ويعود الفضل في ذلك إلى جهتين، الأولى الدولة التي وقفت بالمرصاد لكل طائفي متطرف لتكبح جماحه عن الدفع بالمجتمع السعودي نحو حلبات العنف الطائفي والثانية لحكماء وعقلاء الشيعة، ذلك لأنهم أقلية، التي وإن سعت إلى استثمار بعض الحوادث مثل حوادث القطيف والأحساء العام 1400هــ (1980) للتنفيس عن نفسها، فخرج صوتها بشكل غير مألوف على المجتمع السعودي العام، إلا أن هذه الأقلية على رغم محاولات الاستفزاز الطائفي التي تعرضت لها كفتاوى تكفيرهم وتشويه صورتهم دينيا وثقافيا، فإن رد فعلهم كان عقلانيا حينما تطلّب التعقل ذلك.
إن الحفر في صفحات الماضي مفيد إذا كان يخدم الحاضر والمستقبل، بينما في هكذا موضوعات ولهدف أسمى من تقليب الجروح، هدف يتطلب أن تجتمع عليه إرادة الأمة أجمع وإلا هلكت، وهو الوحدة الوطنية الحقيقية، فالجميع منتفع بتحققها، والجميع متضرر بعدمها، وخصوصا في الظرف العصيب الذي تمرّ به أمتنا الإسلامية اليوم.
ليس من الصحيح البحث عن أسباب المشكلة الطائفية في الوطن فقط، بل الأصح أن نتوجه نحو معالجة الأمور عمليا لا أن نُخمدها. و هذا المطلب يحتاج مبحثا آخر
العدد 246 - الجمعة 09 مايو 2003م الموافق 07 ربيع الاول 1424هـ