ترتفع درجة حرارة النقاشات، بشأن قضية «حرية نقل الكفيل»، مع مضي الأيام، وتزداد سخونتها مع اقتراب موعد تاريخ تنفيذ القرار المتعلق بتلك القضية. والنبرة الطاغية في الكثير من تلك اللقاءات المعلنة منها والخفية، هي المزيد من إلقاء اللوم على غرفة تجارة وصناعة البحرين، وتحميلها مسئولية عدم اكتراث الدولة بردود الفعل القوية المعارضة للإجراء والرافضة له. وربما جاء اليوم الذي ينبغي أن تعرف فيه الغرفة أن «مجتمعها»، والذي هو قطاع الأعمال، أخذ في الانقلاب عليها، ولا يكف، بحق وبدون أي حق، عن توجيه اللوم لها، لأنها، حسبما يراه أفراد ذلك المجتمع، لم تقف بالصلابة المطلوبة، في وجه الدولة من أجل الحيلولة دون إصدار القانون وعلى الصيغة التي جاء بها.
ليس الغرض من تناول موضوع «حق نقل الكفيل» هنا الدخول في مناقشة الجوانب القانونية أو حتى المالية المتعلقة بهذه القضية، على الرغم من أهميتها، بل وضرورة إشباعها نقاشا، لكونها ترسم اليوم، المعالم الرئيسية لصورة السوق البحرينية خلال السنوات الخمس وعشرين القادمة، بقدر ما أردنا التطرق إلى جانب واحد، ذي صلة مباشرة به، وهو أيضا في غاية الأهمية، وهي الفرصة التي أهدرتها الغرفة حين اختارت المعالجة الهادئة لموضوع ساخن بهذه الحدة.
وقبل الولوج إلى صلب الموضوع، لابد من التأكيد هنا، أن الغرفة وهي تخوض معاركها من أجل انتزاع المزيد من الحقوق، سواء كانت تلك الحقوق تتعلق بها هي كمؤسسة، أم بالتجار أنفسهم كأعضاء ينتسبون لها، وهي مجردة من أبسط الأسلحة وأكثرها بدائية، والتي هي سلطتها الطبيعية التي تمارسها بحق من يكتسب عضويتها. فللعلم، لا تملك الغرفة أيا من عناصر السلطة التي تحتاجها لتنفيذ الكثير من صلاحياتها، التي تتمتع بها الكثير من شقيقاتها الأخريات من غرف دول مجلس التعاون.
هذه الحالة المجردة (بفتح الجيم وكسر الراء) للغرفة من أية سلطة لم تأت من الفراغ، كما أنها ليست من الصدفة المحظة، بقدر ما هي سياسة مرسومة نفذتها الدولة في مراحل سابقة، ولم تتخل عنها حتى اليوم، من أجل إضعاف القطاع التجاري البحريني، وتهميش دوره السياسي، الأمر الذي يجعله أسير قرارت الدولة وسياساتها، عوضا عن أن يكون ندا لها وشريكا معها.
المحزن في هذه الحالة أن التجار رضخوا لهذا الأمر وقبلوا به، وهو ما قاد في نهاية الأمر إلى ذيلية التجار على المستوى الفردي، وخنوع الغرفة على المستوى المؤسساتي.
وازداد الطين بلة مع اكتشاف النفط، وسيطرة الدولة على المداخيل النفطية، فتحول دورها من مجرد مسير للأمور إلى لاعب رئيسي في السوق، وأصبحت الدولة، بفضل ما تراكم بين يديها من مداخيل النفط إلى أكبر تاجر في السوق. وتحول التاجر البحريني، من جراء ذلك، من أهم مصدر من مصادر دخل الدولة، والذي كان حتى منتصف العشرينيات المكوس الجمركية، إلى واقف على عتبات الوزارات من أجل الفوز بهذه المناقصة أو تلك مما تهبه الدولة، وخاصة في المرحلة التي سبقت المشروع الإصلاحي، عندما كانت المناقصات، توزع كمكرمات وهدايا، بدلا من خضوعها لمقاييس وشروط المناقصة ذاتها.
انتقلت الدولة من مقاعد المتلقين للأموال المحصلة من الخدمات التي تقدمها، إلى كراسي الواهبين للمناقصات، لمن ترى هي أنه يستحقها. وصارت مقاييس الاستحقاق مجموعة من الولاءات غير المبررة، وحزمة أخرى من السلوكيات المنافقة التي ترضي غرور من يبحثون عنها، لكنها بالقدر ذاته غرست في ذهنية التاجر أنها السبيل الأقصر، إن لم يكن الوحيد، الكفيل بحصوله على الأعمال والمشروعات المطروحة للمنافسة.
رويدا رويدا فقد التاجر البحريني هيبته الاجتماعية، وتراجع معها ثقله السياسي، وخلت الساحة السياسية من فريق يمثل التجار ويدافع عن مصالحهم. هذه الحالة، تمسكت بها الدولة ولم تتخل عنها، ولا تزال تعمل بها.
بالمقابل، وبدلا من اللجوء إلى سياسة الهجوم، وجدنا الغرف تأخذ بأسلوب الدفاع، الأمر الذي جعلها تهدر الكثير من الفرص التي سنحت لها، والتي يمكننا سرد الكثير منها. لكن يكفي هنا أن نختار منها الانتخابات النيابية، على سبيل المثال لا الحصر، والتي قررت الغرفة، أن تكون بعيدة عنها.
لا ينفي قرار الابتعاد هذا بعض المحاولات الخجولة التي شاهدناها خلال السنوات السبع الماضية، والتي إن عبرت عن شيء، فإنما تعبر عن إصرار الغرفة على المراوحة عند خطوط التهميش التي رسمتها الدولة لها، ورفضها التزحزح قيد أنملة عنها.
لا يعني ذلك أن الفرصة لم تعد متاحة، وإنها مرت مرور السحاب. فاليوم أمام الغرفة فرصة تاريخية تستطيع أن تنفض عن نفسها، من أجل اقتناصها ونزع كل أردية الخنوع التي التحفت بها، بأن تقف عمليا، وبطل صلابة، ضد هذا القانون بما يعبر عن مصالح المجتمع الذي تمثله، وتقاتل في سبيل قطع يد من تسول له نفسه تجاوز حدود تلك المصالح.
ليس هناك من يضع شرط وقوفه إلى جانب الغرفة ضمان كسبها لهذه المعركة أو تلك، ففي الصراعات السياسية والاجتماعية، ليس هناك فوز مطلق لطرف ما، مقابل خسارة مطلقة لطرف آخر. لكن بالمقابل هناك برنامج جريء طموح، يضع مصلحة التجار بين يديه، ويستميت من أجل الدفاع عنها، هو الكفيل بتحقيق النصر لقطاع التجار، والانتصار لحقوقهم ومصالحهم.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2446 - الأحد 17 مايو 2009م الموافق 22 جمادى الأولى 1430هـ