تتنازع الدعوات التي ترددها ردهات المؤسسات الحكومية، وتلك التابعة للقطاع الخاص، في البحرين، المنادية بضرورة بناء منصة مشتريات إلكترونية (e procurement)، قوتان متضادتان: الأولى متفائلة وتنطلق من قناعات مفادها أنه رغم ضخامة حجم التجارة البينية في المنطقة العربية، والتي تبلغ عشرات البلايين، لكنها تبدو قزمة عندما تقارن بالحجم الكلي لتجارة المنطقة الدولية، وتكفي أرقام الصادرات النفطية، والواردات العسكرية العلنية، لقياس ذلك التفاوت، والثانية، يسودها التشاؤم، وترتكز على أن البنية التحتية التقنية لا تزال غير قادرة على تلبية احتياجات مثل تلك المنصة، وفي حال نجاحها في ذلك، فإن الكلفة ستكون مرتفعة بدرجة تجرد المنصة من أي جدوى استثمارية. وتذهب هذه النظرة المحافظة إلى أبعد من ذلك، حينما تشير إلى حاجة المنصة إلى أنظمة مالية متطورة، وتشريعات قانونية معاصرة قادرة على تسهيل تنفيذ الوظائف التي تقوم بها تلك المنصة، وهو شرط غير متوافر اليوم عند الحديث عن دولة مثل البحرين، دون التقليل من بعض الخطوات التي أقدمت عليها البحرين قبل سواها من دول المنطقة، مثل بناء وتشغيل منصة المناقصات الإلكترونية.
وبين هاتين النظرتين هناك أخرى ثالثة تقف ضد الشروع في بناء مثل هذه المنصة أو حتى تشغيلها، فيما لو كانت جاهزة اليوم، نظرا إلى الأزمة المالية العالمية التي تجتاح أسواق العالم، والتي تجعل الإقدام على خطوة من هذا النوع محفوف بالمخاطر غير المبررة على الصعيد الاقتصادي، وبالتالي تدعو هذه النظرة إلى المزيد من التريث، بانتظار أن تنجلي غمامة الأزمة وتعود مياه الأسواق إلى مجاريها.
لكن وبغض النظر، سواء تحقق الحلم، وتم بناء مثل هذه المنصة أم لا، يبقى مجرد طرحها على بساط البحث، يعكس نظرة مستقبلية رائدة تسود أوساط العمل الاقتصادي البحريني، بشقيه العام والخاص، وهي، أي هذه النظرة، بحاجة إلى الرعاية والتشجيع، من المؤسسات ذات العلاقة، تشريعية كانت أم تنفيذية.
وقبل الحديث عن جدوى بناء مثل هذه المنصة الإلكترونية، لابد من الاتفاق على التعريف العام الذي يحدد معالمها، مؤكدين أن هذا التعريف، بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتعميق، إذ إن المواصفات الفنية والتقنية الخاصة بكل منصة تحددها طبيعة، وقوانين السوق التي تعمل بها تلك المنصة، ناهيك عن الجوانب الأخرى من لوجستية وتشريعية.
لكن في نطاق التعريف العام، يمكننا أن نذهب إلى القول بأن منصة الشراء الإلكتروني هي بمثابة نظام متكامل يتولى إدارة وتنفيذ عمليات البيع والشراء بين البائع والشاري، بما يشمل ذلك من منتجات وخدمات. هذا التعريف يكتنف العديد من الوظائف التي تشمل المزادات والمزادات المعاكسة الإلكترونية، إلى جانب قنوات أخرى لتسيير عمليات بوليصات التأمين الإلكتروني، وبوابات الدفع الإلكتروني، وأجهزة مراقبة ومتابعة عمليات النقل وإدارة المستودعات، وإجراءات الضرائب والتعريفات الجمركية.
هذه العلاقات الإلكترونية التي تنسجها المنصة بين الباعة والشراة، تغطي مؤسسات حكومية وغير حكومية على جانبي المنصة، أي بقدر ما يمكن أن تكون المؤسسات الحكومية منضوية تحت خانة الزبائن عندما يتعلق الأمر بمشتريات الدولة من منتجات وخدمات، بقدر ما تتحول بعض تلك المؤسسات، مثل وزارات أو هيئات الكهرباء والماء والبريد وما شابهها، إلى مزودين بالخدمات لزبائنهم من القطاع الخاص من أفراد ومؤسسات، على حد سواء.
وبخلاف ما قد يتبادر إلى أذهان البعض بأن هذه المنصة الإلكترونية، إنما يتم بناؤها لتلبية احتياجات الشركات الكبيرة، والتي في بلداننا تنحصر في شركات النفط والطاقة وتلك المتفرعة منها، كشركات الصناعات البتروكيماوية. وفي ذلك شيء من الحقيقة، وليس الحقيقة كلها، فإن تجارب الدول التي سبقتنا إلى بناء هذه المنصات، من أمثال ماليزيا، وسنغافورة، بل وحتى أسواق كبيرة من حجم السوق الأميركية، كلها تؤكد الفوائد الجمة التي تحصدها المؤسسات المتوسطة والصغيرة من وراء استخداماتها المبدعة لهذه المنصة، سواء في تعاملها مع تلك الشركات الكبيرة، أو في تطوير العلاقات فيما بينها.
وفي سوق مثل السوق البحرينية، حيث تشكل الشركات المتوسطة والصغيرة، حصة مهمة في العمليات التجارية، تزداد أهميتها السوقية والمالية، حينما تحذف الكتلة التي تمثلها تحويلات الشركات النفطية وتلك المتفرعة منها، تزداد الحاجة إلى مثل هذه المنصة، إن كان القصد منها زيادة حضور المؤسسات المتوسطة والصغيرة، في هذه السوق، أو لتوسيع قدرتها التوسعية للوصول إلى الأسواق العالمية من خلال تلك المنصة.
مسألة أخرى تساعد في تحقيقها تلك المنصة، هي تلك الدرجة العالية من الشفافية التي يصعب الوصول لها عبر قنوات البيع والشراء التقليدية. فقنوات البيع والشراء الإلكترونية القائمة على هذه المنصة، بما فيها عمليات المناقصات الإلكترونية، قادرة وبكفاءة عالية، ومن خلال تقليصها لمساحة التدخل البشري في عمليات البيع والشراء - وإخضاعها جميعا لنظام إلكتروني متطور، قادر على توفير متطلبات الشفافية، وتقليص نسبة الالتفاف والمراوغة في آن؛ ما يحقق أعلى درجة من الشفافية.
بقيت قضية في غاية الأهمية، وهي أن بناء منصة كفؤة قادرة على تلبية احتياجات السوق بحاجة إلى قرار جريء ذي نظرة مستقبلية مقدامة تنظر نحو الأمام وتطمح إلى تهيئة البحرين كي تكون مستعدة لممارسة دور مميز بين دول الشرق الأوسط في الأسواق العالمية. ومرة أخرى نؤكد أن من أقدم على بناء منصة المناقصات الإلكترونية مثل مجلس المناقصات، ومن ألحق ذلك ببرنامج تدريب مكثف واسع النطاق لتهيئة المؤسسات المتوسطة والصغيرة لاستخدام ذلك النظام، وهو ما قام به «تمكين»، قادر على نقل بناء هذه المنصة من مرحلة الأحلام الوردية إلى مستوى الواقع المجسد
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2445 - السبت 16 مايو 2009م الموافق 21 جمادى الأولى 1430هـ