من أنت؟
هذا هو السؤال الذي أسأله للطلاب في أول محاضرة مع بدء الفصل الدراسي كل مرة.
من أنت؟
ويبدأ الطلاب في تعريف أنفسهم بمهنة الأب وتعليم الأم والمستوى الاقتصادي الذي يعكسه الحديث عن المدرسة التي جاءوا منها أو الحي الذي يعيشون فيه أو المنطقة أو المحافظة التي تضرب فيها العائلة بجذورها. قد تكون اهتماماتهم بسيطة لو كان من أسرة مكافحة كالقراءة لمعظم طلاب جامعة القاهرة والتي هي هواية عظيمة لكنها لا تكلف بالضرورة الكثير وخاصة مع وجود أسواق الكتب المستعملة - تاريخيا - في القاهرة، يقرأونها وهم في طريقهم للدراسة في الحافلات العامة المزدحمة، وعلى الضفة الأخرى قد يكتب طالب عن هواية لغطس وقيادة اليخوت، لو كان السؤال في الجامعة الأميركية والطالب والده من رجال الأعمال واشترى له سيارة بورش أو جاجوار يأتي بها للجامعة.
أما إذا كان السؤال موجها بلطف لقارئ يتواصل فعادة ما تأتيني الإجابة عن الدراسة لو كان شابا أو فتاة، والوطن، والنشاط،؛ أو بيان المهنة والتاريخ الوظيفي لو كان - أو كانت - من الجيل الأكبر.
لا أحد يتحدث عن نفسه.
الجميع يتحدثون عن الآخرين أو الأشياء أو التجليات.
لا أحد يتحدث عن نفسه.
لذا أسأل نفسي، هل حقا يعرف بعضنا بعضا؟
قابلني قارئ وصديق فقال مبتهجا: «ذكرت اسمك لصديق فقال أنه يعرفك جيدا...»، وأردف يتحدث عن صفات لي ذكرها الصديق، فوجدته يتحدث عن شخص آخر، فلا هو يعرفني فعلا عن قرب ولا أنا تحدثت معه عن نفسي، لكن يبدو أن المسارعة للحكم على الأشخاص وافتراض المعرفة الواسعة بمن وماذا وكيف ومتى صارت من عاداتنا اليومية.
من أنت؟
أنت نتاج عوامل مركبة، لذا أعتقد بأن هذا من أصعب الأسئلة.
أنت ذات لها وجود متفرد، خريطة من المفاهيم والمشاعر والأحاسيس التي قد لا يعرفها سواك، لذا قد يصدمنا تصرف البعض بعد أعوام من التعارف، فقد كانت تلك الذات متخفية وراء حجاب المظهر والمجاملة لكن الأيام تكشف وجوها أخرى لم يكن أحد يتحسبها.
وأنت تاريخ مركب، مسيرة من العمر لها أيضا طابعها الفريد، وعلاقتها بأزمنة متراكمة، وذكريات تحدد التصورات وخبرات تصوغ المواقف والقرارات، بوعي أو من دون وعي. وما بين التاريخ الفردي والاجتماعي وطبقاته العميقة وقشرته الخارجية، والتعامل مع الزمن والوقت، والرؤية للمستقبل - تتشكل شخصية الإنسان.
وأنت ذات تدور في مكان - بل أمكنة - صنعت تلك الشخصية في بعدها المادي، من بادية أو ريف أو حضر، من مساحة شاسعة كنت تلعب فيها أو مكان ضيق كنت تعيش فيه، ترى الشمس أو تظلم في عينك الصغيرة الدنيا لأن نافذتك تطل على نوافذ أخرى ينتهك بعضها خصوصية بعض. مساحات تنوعت وأنت تحبو وتمشي وتجري وتسافر، مجالات للبصر وفضاءات للعقل تتشكل منها مساحات النفس في أعماقها... وينمو مفهوم البيت والوطن والعالم... وينمو معه مفهوم الهوية.
وأنت عقل يستكشف العالم، يضع لنفسه تصورا عن الأشياء والبشر، ويدير آلة الجسد واللغة والمشاعر في تناغم، أو ربما يربك التناسق حين يهمل دوره ويعطل قدراته ويترك الجسد والمشاعر والظروف تدير حياتك، أو يطغى حين يضخم من قدراته... فيستعلي ويستكبر ويزعم أن الرأي الواحد أكثر رشدا من رأي الآخرين، هذا العقل الذي قد يحملك لعالم العباقرة وقد يبقيك ضمن قطيع المستلبين المسلمين القايدة لعقول الآخرين المستقيلين من التفكير والإرادة والفعل.
وأنت لغة، منطق للتفكير وأداة للتعبير، أو لغات تبلبل الألسنة وتربك الوعي بتداخل الدلالات، لغة لسان ولغة وجدان، ولغة جسد يعبر عن الداخل لكنه يرسل إشارات للخارج تفصح عنك.
وأنت جسد يتحرك ويسعى، علاقتك به توازنا أو تجاهلا أو تمركزا حوله تعبير عن مفاهيم ووعي، وذاكرة وتاريخ، كيف تسكن في هذا الجسد وماذا تفعل به.
وأنت كتلة من المشاعر تنقسم حول تركيبها أنماط من الشخصيات، بعضها بارد وبعضها متدفق دافئ، بعضها نفعي أناني بخيل وبعضها مفرط في الكرم والعطاء، ما هي مشاعرك تجاه نفسك أولا وهل تحب هذه النفس لتنطلق بها للعالم أم تحبها وتكره العالم أم تكرهها وتدمر العالم؟ ذاتك العاطفية هي القلب النابض فيك، قد تترقى في العلم والعمل، لكنك تظل فقيرا في عواطفك هشا في مشاعرك طفلا في انفعالاتك، وقد تغنيك ذاتك العاطفية برأس مال من العلاقات يعوضك عن قلة المال أو فقر الأمكنة.
وأنت عضو في مؤسسات، من الأسرة لمكان الدراسة أو العمل، للنادي، للمسجد، للنقابة، للدولة.
ذاتك تشكل هذه المؤسسات لأنك طرف فاعل فيها، لكنها أيضا تعيد تشكيلك، من الأسرة التي تقوم بغرس المفاهيم، للمدرسة التي قد تكرسها أو تزرع مكانها مفاهيما أخرى بديلة أو معارضة، إلى المسجد الذي قد يحملك للسماء أو يبقيك في الصف بين الناس جسدا بلا روح، إلى القبيلة التي تدخلك في زمرتها أو المذهب الذي يمنحك قوة التضامن أو يحرمك حرية التفكير المستقل، إلى الدولة التي تحدد لك في أحيان كثيرة حركتك ورؤيتك ومجالات مشاركتك أو تمنعك من هذا كله... وتطلب منك الطاعة والولاء.
وأنت كائن له علاقة بالغيب، هل تؤمن به أم تتجاهله، هل تدخله في حساباتك مع ذاتك أم تكتفي برمزيته في حياتك من دون أن يدل الرمز على جوهر، هل تحوله لطاقة خلاص لك وحدك فتدور به حول كعبة أنانيتك أم تجعله طاقة تطلقها في الكون لتسير في مدارات الخلق وتغير به العالم.
وأنت ذات تناضل اليوم في عالم يموج بالآلات، ضوضاء صوتها ووتيرة سرعتها تفقدك عقلا وروحا وجسدا قدرتك على التقاط أنفاسك، وتصبح الآلة هي الوسيط بينك وبين العالم وحجاب جديد على الذات يربك من حولك ويجعل محاولة فهم الذات وفهم العالم أصعب. المعلوماتية في حد ذاتها لا تقدم رؤية للعالم، ولو نزلت محيطها توشك أن تغرق، ذاتك المتماسكة هي قارب النجاة، ووعيك بهذه الذات هو الذي يرشدك، فأنت لا تتحقق ولا تكون بمحض آلات تستخدمها فتستخدمك... بل أنت أنت قبل الآلة ومن دون الآلة وفوق الآلة... أنت ذات لا تضيف لها الآلة قيمة... ولا ترفع من شأنها إذا كانت هي في أصلها متبعثرة متشظية.
من أنت؟ من أنت؟
تحدثي عن نفسك... يسألني البعض... فأصمت.
من الصعب أن أتحدث عن نفسي... قد أحتاج عمرا كي أفهمها قبل أن أبدأ في الحديث عنها.
وقد أتحدث وأنا لم أعرفها بعمق... بعد. وقد أسعى للإمساك بالمعنى لكن يفلت مني، وأتغير وتتغير اللغة، وأحاول من جديد.
أحاول أن أفلت من المأزق بأن أطلب من الآخرين أن يتحدثوا هم عن أنفسهم، أبادر بالسؤال قبل أن يباغتني به أحد... فيفعلوا... ويستفيضوا... كلام كثير عن كل ما حولهم لكن... لا شيء عن أنفسهم، ثم يذهبون... ويقولوا بعدها نعرفها جيدا، فلا هم يعرفونني ولا أنا عرفتهم.
من أنت؟
من أنت؟
سؤال مفتوح على الكون ومبني للمجهول: أنت.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2440 - الإثنين 11 مايو 2009م الموافق 16 جمادى الأولى 1430هـ