العدد 244 - الأربعاء 07 مايو 2003م الموافق 05 ربيع الاول 1424هـ

مسئوليتنا تجاه قضايانا المصيرية

«منطقة الصفر» بين المشاركة والمقاطعة

سلمان عبدالحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب

تكتسب الدعوة التي أطلقها أحد رموز المعارضة والناشط السياسي عبدالوهاب حسين في خطبة الجمعة الأخيرة، للجمعيات السياسية المقاطعة، إلى مغادرة السير في منطقة الصفر بين المشاركة والمقاطعة، وإدلاء من يملك رأيا جديا في المشاركة من المقاطعين، أو ممن قاطع وهو يؤمن بالمشاركة برأيه، تكتسب هذه الدعوة أهمية استثنائية، لأنها صدرت عن الرمز الذي أطلق دعوة المقاطعة، ودافع عنها بعناد، وطالب أعضاء البرلمان بالاستقالة لاختصار آلام الأمة كما قال، في ظل عدم حسم بعض المقاطعين أمرهم في التعاطي أو عدم التعاطي مع البرلمان، وعدم وضوح الرؤيا تجاه الكثير من القضايا بما فيها الملفات الساخنة، سوى إصدار البيانات، وإقامة الندوات التحشيدية.

وعلى رغم إشارة «الأستاذ» كما يلقبه الناس بذلك، إلى ثبات قناعته بالمقاطعة وعدم تزلزلها، فإنه اعتبر سير الجمعيات المقاطعة في منطقة الصفر بين المشاركة والمقاطعة يضيع ثمار المشاركة على الجمعيات المقاطعة، ولا يحقق أهدافها في مقاطعة الانتخابات، وبحسب «الأستاذ»، فذلك يضر بمصالح الأمة ويصل إلى درجة الخيانة لأمانة الأمة. هذه الكلمات على رغم قسوتها، فإن فيها استنهاضا واضحا للجميع لمغادرة الموقف السلبي، واتخاذ موقف واضح وثابت أيا كان هذا الموقف، وهي تعكس حرصا واضحا على صوغ الواقع السياسي وفق القناعات لا التكتلات والمصالح البينية، وبإمكانها بعد ذلك أن تنتج حراكا باتجاه الكثير من الشفافية في التعبير عن الآراء المتباينة، إذا وجدت النوايا الصادقة والقادرة على مسح الوضع السياسي والبرلماني تحديدا بكل تجرد، وإعطاء تقييم أولي يحتاج بالضرورة إلى تقييم آخر وآخر لصوغ الموقف المطلوب، بعيدا عن حالات التواري المدروسة، وراء تحقيق الأهداف الخاصة، بعناوين مختلفة تماما عن المطروح.

قد يتهم «الأستاذ» بأنه سعى إلى تحشيد الشارع باتجاه المقاطعة، بصورة حرمت الطرف الداعي إلى المشاركة من طرح رأي مغاير، إلا أنه أكد في دعواته إلى المقاطعة أنه على استعداد لنسف ما يعتقد به إذا اقتنع بخلافه، وأنه مستعد لأن يأتي بالطرف المشارك في مجلسه أو على منبر الجمعة الذي يخطب فيه لعدة أسابيع ليطرح وجهة نظره على الناس، وأكد أيضا أنه امتنع عن الصلاة وإلقاء الخطب في موضوع المقاطعة لأسابيع عدة، ليعطي وجهة النظر الأخرى حقها في البروز على الساحة، وأخذ حظها من المناقشة والبحث، لأن الطرف الآخر - بحسب الأستاذ - يريد من صوت المقاطعة أن يصمت ليتمكن من طرح وجهة نظره، فيما لفت بعض من امتنع عن الإدلاء برأيه إلى أن «الأستاذ» لم يترك مجالا للآخرين لأن يطرحوا وجهة نظر مغايرة، لأن المشاركة محكوم عليها سلفا بأنها «تفتض ضمير الأمة».

لسنا هنا في وارد طرح السجال كله، ولا مناقشة الاتهام، ولا الرد عليه، ولا الرد من الطرف الآخر، فهذا الكلام في ذمة التاريخ بكل مكنوناته ودواخله ودهاليزه، إلا أننا اليوم أمام دعوة جديدة، تعكس في مدلولاتها الكثير من التململ والضجر من الواقع «الصفر» نتيجة خواء اليدين من أية نتيجة، فإذا كانت تلك الدعوات من الطرفين وقعت في ظروف وملابسات استثنائية، فهذه الدعوة لها طعمها الخاص في إعادة الحراك السياسي البيني لقوى المجتمع الفاعلة، وتوضيح الحقائق بكل تجرد، والانصياع لصوت الحقيقة مهما كان ثمنها باهظا ومكلفا، وقد يكون من الإنصاف أيضا، أن يكون لمن خاضوا التجربة البرلمانية بقناعة، أو من دافعوا عن وجهة نظرهم في المشاركة بصوت عال، أن يكون لهم رأي قوي في مضمار المناقشة، كما ينبغي حث الرأي المتواري للإفصاح عن نفسه بكل حرية، ومغادرة حال التكتل والتواري في ظل انضوائه تحت عنوان كبير يدعى «المقاطعة».

إلا أن الموضوعية تقتضي طرح بعض الخلفيات السياسية، التي تحتاج إلى إعادة نظر من جديد، لأنها خلفيات غير منهجية، وإنما مزاجية في غالبيتها، ومقصودة بدرجة كبيرة، وبقاؤها على هذه الدرجة العالية من الفعل والتأثير في المجموعات المتباينة، قد يولد حال احتقان داخلية غير محمودة العواقب، والسعي لحلها يخدم كثيرا في التعاطي المرن مع القضايا السياسية المختلف عليها، ويوصلنا إلى درجة كبيرة من الشفافية، تمكننا من النظر إلى القضايا بطبيعتها الأولية والفطرية إذا صح التعبير، بعيدا عن الخلفيات السياسية المعقدة.

من الخلفيات السياسية المعقدة، ذلك الفارق الكبير في النظر إلى المشهد السياسي في البحرين، وكأنك تستمع إلى أضداد حقيقيين لم يكونوا في يوم من الأيام قرناء ورفقاء درب، ففي حين يرى المقاطعون أن الدستور الجديد أفقد الحال السياسية ضماناتها الأساسية في البقاء، من خلال رهن الصلاحيات التشريعية ومصير المجلس المنتخب بيد السلطة التنفيذية، مع الإبقاء على حل البرلمان مفتوحا بأدوات دستورية، من دون إلزام السلطة التنفيذية بإعادته من جديد، ما يعني عند هؤلاء أن ضمانات العودة إلى دستور 73 الذي ناضلوا من أجله وأصبح شعار مرحلة سياسية بكل ارهاصاتها المؤلمة، أصبحت هذه الضمانات غير مضمونة في ظل لعبة السياسة المفتوحة مع الحكومة، يرى المشاركون أن التجربة الديمقراطية تحتاج إلى نَفَس طويل ليستقيم عودها، وإلى أدوات العمل السياسي الميداني بالدرجة الأولى لإعطائها ضمان البقاء من خلال دعمها وتثبيتها، إلا أن هذا الفارق الموضوعي يبقى قائما، ويحتكم في الكثير من إيقاعاته إلى الكثير من الهواجس والوقائع القريبة غير البعيدة، وتقريب الهوة بين الطرفين يحتاج إلى جهد رسمي واضح، لأنه الأقدر على حرف الدلالات والهواجس عن حالها المستقرة فيها إلى حال أخرى متوازنة ومرنة، فيما يبقى الجهد الشعبي والأهلي محكوما بالتقديرات والتخمينات والنوايا الحسنة، التي لا تحل في الكثير من ممارساتها وتقديراتها محل الهواجس والوقائع في صوغها للواقع السياسي.

يجب على القيادة السياسية أن تؤمّن تواصلا مريحا غير استثنائي بينها وبين المعارضة، بما يخدم قواعد اللعبة السياسية في البلد في إطار واضح وممنهج ومتكافئ، كما يجب عليها أن تعترف بـ «المعارضة» اعترافا غير قهري، لأن ذلك بطبيعة الحال يخدم المرونة في تبني الخيارات السياسية المطروحة على الساحة، ويقلص الهوة بين الطرفين في النظرة إلى المشهد السياسي، وبين الطرفين والحكومة من جهة أخرى، ومن دون ذلك، فإن القناعات والذوات والتاريخ، كلها مجتمعة عزيزة على أصحابها، ما لم يُحفر فيها أخاديد مودة ورحمة، وسلوك سياسي معاند وقاهر لكل مألوف السياسة التي رضعناها، وتجرعنا غصصها ونحن في المهد صغارا.

من جهة أخرى، فإن السلطة التنفيذية لم تعزز قناعات الفريقين وثقة الناس بها، لأنها لم تسع لحسم قضية واحدة لصالح الناس، فبعد ثلاث سنوات من المشروع الإصلاحي، مازالت الكثير من الملفات الساخنة تترنح من دون حل، وقد يستغرب المرء أحيانا، كيف تصل المناكفة والعناد بالمسئولين في أجهزة الدولة ووزاراتها إلى هذا المستوى من التحدي لمشاعر الناس وجوعهم الكافر الذي لا يرحم؟ كيف يستسيغ بعض المسئولين إضعاف قوى المجتمع التي ترمي بكامل ثقلها من أجل الحفاظ على السلم الأهلي، وهي تصبِّر الناس على الأذى والبلاء؟ هل يمكن أن يكون الناس وقضاياهم الحيوية ضحية توازن القوى بين الحكومة والمعارضة؟ ألا يخشى صناع القرار من الحكومة والمعارضة في هذا البلد أن يكفر الناس بالحكومة والمعارضة معا، وجميع المشروعات التي تطرح من قبلهما، فلا يستطيع أحد الطرفين أن يعيد التوازن إلى الناس، بعد أن أضر بتوازناته مع الطرف الآخر؟ وهذا يعني أن كل الحالات عند الناس سواء، شارك من شارك، وقاطع من قاطع.

إذا جئنا للفريقين المختلفين في وجهتي نظر المشاركة والمقاطعة، فأول ما يسجل من خلفيات سياسية مؤلمة، هو محاولة الإحلال القهري لشخصيات على حساب شخصيات أخرى، ولقناعات على حساب قناعات، ولمرجعيات على حساب مرجعيات، ما ساعد بشكل كبير على تفتت المرجعيات الأساسية للحال السياسية في البلد، وتحولها إلى مرجعيات صغيرة في الدرجة الأولى، وتضاربها وتصارعها في الدرجة الثانية، وتذبذب الناس في الأخذ بها أو تركها في الدرجة الثالثة. وبمراجعة سريعة لشريط الحياة السياسية منذ بدء الميثاق، ودخول الطاقم المعارض بكامل ثقله في الحياة السياسية، نجد أن أشخاصا مضحين مسحوا من ذاكرة الناس، وأشخاصا آخرين قاوموا عوامل التطويق والتهميش، وهذه العملية لم تأت بطبيعة الحال وفق عوامل طبيعية، تقتضيها سنة الله في هذا الكون في التبديل والتغيير، وإنما جاءت بتدبير قصدي سريع ومفاجئ أربك الحياة السياسية في إطارها الداخلي المتناغم، وأصبحت كلفتها عالية في تصارع القناعات وإحلالها، وخصوصا في ظل وجود كتل سياسية موالية لهذا الطرف أو ذاك.

لذلك يجب الالتفات بصورة واضحة، إلى أن سياسة الإحلال القهرية هذه ستترك آثارها المستقبلية على صدقية الحركة السياسية ونقاوتها، ومستوى علاقة الناس بها، ويجب الالتفات إلى أن مقاومة الخيارات السياسية لبعضها بعضا بهذه الطريقة، لن تخدم خيارا واحدا بعينه، وترجحه على الخيارات الأخرى، ولن تجعله يفرض نفسه بالقوة على الناس، ولن يكون في النهاية خيارا سعيدا لأصحابه، لأنه فقد الآخرين عدا نفسه، وبالتالي فقد عملية الاستمرار، وعرَّض نفسه لعملية فضح عاجل أو آجل، ما يجعل آثاره التدميرية على الحال السياسية أكبر فأكبر، وتوجد حاجة كبيرة لقدر من التسامح والتمرد على حال المكابرة الجامحة في النفوس.

نقطة أخرى يمكن إثارتها في هذا الجانب، وهي أن القرار يؤخذ دائما في دائرة التكتلات والنخب ومناطق القرار والنفوذ، وكأن الساحة ملك لهؤلاء فقط، في حين تبقى الجماهير في إطارها العفوي والكادح معزولة عن كل ذلك، وكل هم هؤلاء أن تصفق لهم الجماهير ولمشروعاتهم وقت الحاجة إليهم، وهي بذلك تمارس صورة من العمل السري المدروس، في طرح القناعات، وإقامة مناطق النفوذ، وتشكيل الرأي العام باتجاه موقف معين، من دون الأخذ في الاعتبار مساحات الرأي الأخرى، خصوصا في ظل عدم وجود عمل مؤسساتي قائم بذاته يشفع لهذه الانماط الحزبية، وحركتها في الساحة، ما يضعها أمام سؤال النوايا واستحقاق القرار بكل تداعياته ومدلولاته.

إذا جئنا لهذا المستوى من الممارسة الحزبية والفئوية في أسلوب صناعة القرار، وأساليب التقريب والتبعيد عن مناطق النفوذ، في ظل مجتمع لايزال يتعلم أبجديات السياسة، ندرك بكل جلاء خطورة اتخاذ القرار السياسي بهذه الطريقة الحزبية، التي تبتعد في كل معطياتها عن همّ الشارع وأبجدياته الأولية، وندرك أيضا خطورة المناطق المبهمة في الآراء والقرارات، والحالات التمويهية والتعويمية لدوافع القرار، مع الاحتفاظ بالخطاب الذي يدغدغ مشاعر الناس، إمعانا في التمويه والتعويم وإخفاء الدوافع.

إذا قسنا ذلك بطبيعة الأداء السياسي لجميع القوى المجتمعية طوال السنوات الثلاث من عهد الإصلاح، والاخفاقات الكثيرة التي خلفتها في صوغ موقف معارض متوازن يدافع عن حقوق الناس، وصوغ الذوات والكيانات السياسية المتناغمة، وقسنا ذلك أيضا، بالكثير من الداخلين في الهم السياسي بعد أن كانوا بعيدين عنه أولا يذكرون فيه، وتحرك المواقع والأسماء بصورة مربكة، إضافة إلى عدم وجود عنوان واحد يمكن أن يتفق عليه لمشروع الإصلاح والعناوين الفرعية الداخلة فيه، قد ندرك حقيقة المقاطعة والمشاركة خارج إطار التغييرات الدستورية، وإنما بخلفياتها السياسية المحضة، لنكون قادرين - إذا وجدت النوايا الحسنة - على أن نصوغ موقفا وطنيا موحدا يختزل كل العناوين الفرعية، بالتكتل من جديد فوق كل هذا الركام، وإعلان الوطن والسلم الأهلي مرجعية كبرى فوق كل المرجعيات

إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"

العدد 244 - الأربعاء 07 مايو 2003م الموافق 05 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً