بعد يوم واحد من توقيع اتفاق مصالحة جديد بين تشاد والسودان في العاصمة القطرية الدوحة الأحد الماضي، أعلنت أنجمينا أن الخرطوم خرقت الاتفاق وأرسلت المتمردين التشاديين إلى داخل الأراضي التشادية انطلاقا من السودان في محاولة حديثة للإطاحة بنظام إدريس ديبي. لم يكن اتفاق الدوحة للصلح بين البلدين هو الأول من نوعه، بل سبقته ست اتفاقات في كل من طرابلس الغرب والرياض والعاصمة السنغالية داكار وجميعها باءت بالفشل في وضع حد للتوترات بين البلدين. ويبدو أن الإرادة الوطنية للنظامين التشادي والسوداني قد اختطفت ولم يعد بمقدورهما عمل شيء حتى وإن خلصت نواياهما لتهدئة الأمور عند الحدود بينهما. فالأمر أصبح أكبر من حجم ونفوذ الدولتين اللتين كانتا في الماضي تعيشان في وئام خصوصا أن أنجمينا ما كانت تتجرأ على التمرد على الخرطوم أو أن ترفع صوتها عاليا باعتبار الأخيرة الأخت الكبرى التي احتضنت في يوم من الأيام إدريس ديبي نفسه قبل أن يصل إلى السلطة.
ومن الواضح أيضا أن هناك صراع قوى عظمى للهيمنة على هذه المنطقة وتشكيلها وفقا لمتطلبات العولمة والنظام العالمي الجديد. فبينما تبدو الأوضاع الداخلية في تشاد وكأنها تتجاوز قدرة فرنسا في الاحتفاظ بمقولتها إنها «حامية إفريقيا» وتخشى التدخل العسكري المباشر في الصراع كما فعلت من قبل وتفرجت على الإبادة الجماعية في رواندا العام 1990 وذلك تحسبا لسيناريوهات مفاجئة، تظهر الولايات المتحدة كلاعب رئيسي في منطقة أصبحت منذ فترة ليست بالقصيرة تقع في مركز اهتماماتها الاستراتيجية.
يعود الوجود الفرنسي في تشاد إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما قامت باريس باحتلالها ضمن ما احتلت من بلدان القارة السمراء. وبعد حصول تشاد على الاستقلال العام 1960 عملت فرنسا على إبقاء نفوذها في البلاد. وظهر التأثير الفرنسي في السياسة التشادية من خلال التحكم في جميع الرؤساء المتعاقبين على الحكم، وتدبير انقلابات على أولئك الذين تنتهي الحاجة لهم. وحرصت باريس في السنوات الأولى التي تلت استقلال تشاد على إيجاد رؤساء من الجنوب المسيحي.
بيد أن اكتشاف النفط حديثا في هذا البلد شكل العامل الحاسم في إصرار فرنسا على إبقاء قواتها هناك رغم أنها سعت إلى سحب غالبية قواتها من الدول الإفريقية وذلك لمواجهة النفوذ الأميركي الذي أخذ يتقوى تدريجيا في إطار البحث عن بدائل لنفط الشرق الأوسط. وكان لتخلي شركة النفط الفرنسية «إلف» عن امتيازاتها للتنقيب عن البترول التشادي وانسحابها بسبب خلافات مع نظام ديبي الذي فرض شروطا عليها،فرصة لتدخل شركات نفط أميركية. وبعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على الولايات المتحدة أصبحت تشاد جزءا من المنظومة الأمنية الأميركية الجديدة في إفريقيا التي يطلق عليها مبادرة «الساحل والصحراء». ولم يعد المسئولون التشاديون يعلقون آمالهم على باريس بعد خفوت نجمها في بلدان الجوار، وكان ذلك واضحا من انتقاد ديبي لفرنسا في عدم تدخلها مباشرة ومنازلة المتمردين على أرض الميدان والاكتفاء بالتعاون الاستخباراتي.
وبينما يتطلع التشاديون إلى التعاون العسكري الأميركي فقد وصل المدد بالفعل تحت ذريعة مكافحة الإرهاب وفي إطار «مبادرة الساحل والصحراء». وقد توسطت واشنطن من قبل بين أنجمينا والبنك الدولي بسبب أزمة البترول المتعلقة باتهام البنك الدولي للسلطات التشادية بخرق اتفاق موقع معها يختص بتحويل نسبة معينة من مداخيل النفط إلى أغراض التنمية البشرية.
وفي المقابل تسعى واشنطن أيضا هذه الأيام إلى التقارب مع النظام السوداني بعد أن وجدت أن «سياسة العصا» لم تعد تجدي نفعا معه ولذلك حضر المبعوث الأميركي للمرة الأولى محادثات السلام بشأن أزمة دارفور في الدوحة.
ولذلك لا نستبعد أن يكون التحرك الجديد للمتمردين التشاديين وعزمهم إسقاط أنجمينا بإيعاز فرنسي لعرقلة التهدئة في المنطقة. فالتقارب الأميركي- السوداني وعودة متمردي دارفور إلى مفاوضات الدوحة لم يرق لفرنسا ساركوزي التي تقف بقوة خلف المحكمة الدولية التي تطالب بتوقيف الرئيس السوداني. فتحرك المتمردين التشاديين سيقابله حتما تحرك مضاد من قبل حركة «العدل والمساواة» المتمردة في دارفور لغزو الخرطوم مجددا في الذكرى الأولى لهجومها على أم درمان العام الماضي.
ويأتي هذا الموقف الفرنسي العدائي المحتمل ضد الخرطوم ردا على فشل المحادثات التي أجراها أخيرا مساعد الرئيس السوداني في باريس التي طالبت الرئيس البشير بعدم الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة مقابل وقف الإجراءات في محكمة لاهاي. وقد رفضت الخرطوم هذه المساومة. وهكذا سيستمر التوتر في كل من تشاد ودارفور لأن ببساطة لا تريد القوى الكبرى حل هذه الأزمات إقليميا وبأجندة وطنية بحتة.
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 2437 - الجمعة 08 مايو 2009م الموافق 13 جمادى الأولى 1430هـ