العدد 2436 - الخميس 07 مايو 2009م الموافق 12 جمادى الأولى 1430هـ

المذهب الظاهري في فقه الفلسفة

ابن حزم بين فقه السياسة وسياسة الفقه (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

انطلقت فلسفة ابن حزم من منهجه الفقهي، واتخذ منه الدليل الحسي على ترتيب أسلوب تفكيره المنطقي في عقل الأشياء وحلها في حقل الاجتهاد. فهو يرى أن «كلام الله تعالى واجب أن يحمل على ظاهره، ولا يحال عن ظاهره البتة إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حس، على أن شيئا منه ليس على ظاهره، وأنه قد نقل عن ظاهره إلى معنى آخر، فالانقياد واجب علينا لما أوجبه من ذلك النص أو الإجماع أو الضرورة» (كتاب الفصل، الجزء الثاني، ص 300 - 301).

الاجتهاد عنده يجب أن يقتصر على ظاهر القرآن ويقوم على ثلاثة مصادر: النص والإجماع والضرورة. يتفق كل المجتهدين على الكتاب والسنة (النص) والإجماع إلا أن مسألة الضرورة ويسميها أحيانا «ضرورة حس» وأحيانا «برهان ضروري» فهي خاصة بفقه ابن حزم «الظاهري». فأصحاب الظاهر (الظاهرية)، كما يذكر الشهرستاني، وهو على المذهب الشافعي، لا يأخذون بالقياس والاجتهاد في الأحكام. وحدد مؤسس الظاهرية (داود بن علي بن محمد الأصفهاني) أصول الاجتهاد في الكتاب والسنة والإجماع فقط و»منع أن يكون القياس أصلا من الأصول (...) وظن أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنة. ولم يدر أنه طلب حكم الشرع من مناهج الشرع، ولم تنضبط قط شريعة من الشرائع إلا باقتران الاجتهاد بها، لأن من ضرورة الانتشار في العالم الحكم بأن الاجتهاد معتبر». (الملل والنحل، الجزء الأول صفحة 206).

رفض ابن حزم الأخذ بالقياس واستبدله بالحس أو الضرورة كأساس في منهجه الفقهي. وتميز بذلك عن مختلف الأئمة والفقهاء في أصول الاجتهاد عندهم الذي قام على أربعة أركان: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

اعتبر الاجتهاد في الإسلام من فروض الكفايات فإذا اشتغل بتحصيله واحد سقط الفرض عن الجميع، وأجمل الشهرستاني شروطه في خمسة: أولا، معرفة اللغة العربية حتى يمكن التمييز بين الألفاظ. ثانيا، معرفة القرآن وتفاسيره وما ورد من الأخبار في معاني الآيات حتى تستنبط الأحكام. ثالثاُ، معرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها والإحاطة بأحوال النقلة والرواة. رابعا، معرفة مواقع إجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. خامسا، معرفة مواضع الأقيسة وكيفية النظر والتردد فيها. (الملل والنحل، الجزء الأول، صفحات 198 - 207).

على رغم الضوابط الشرعية التي اتفق عليها لتحديد صفة المجتهد اختلف المجتهدون في الفروع وفي أحكامهم من الحلال والحرام بسبب انقسام الأئمة إلى مدرستين: أصحاب الحديث (أهل الحجاز) وهم أصحاب مالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وصاحب المذهب الظاهري داود الأصفهاني. وأصحاب الرأي (أهل العراق) وهم أصحاب أبي حنيفة (النعمان بن ثابت) ومن ذهب معه.

اختلف أصحاب الحديث عن أصحاب الرأي لأنهم اعتنوا بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص من دون عودة إلى القياس في حال وجدوا خبرا أو أثرا. واختلف أصحاب الرأي عن أصحاب الحديث لأنهم اعتنوا أكثر في تحصيل وجه القياس واستنباط المعاني من الأحكام وبناء الحوادث عليها، وأحيانا يقدمون القياس على آحاد الأخبار.

أدى الاختلاف بين المدرستين إلى نشوء اختلافات كثيرة في الفروع شجعت على قيام محاولات توفيقية بين أصحاب الحديث وأصحاب الرأي أبرزها محاولة الأمام الشافعي التي تابعها الإمام الأشعري (أبو الحسن) بعد انشقاقه عن المعتزلة وأضاف إليها لاحقا علم الكلام ثم جاء بعده الباقلاني والجويني أستاذ الإمام الغزالي (أبو حامد).


فقه ابن حزم

وضع ابن حزم مؤلفاته الفقهية - الفلسفية قبل أن يولد الغزالي، لذلك تركز سجاله ضد الإمامين أبو حنيفة والأشعري بصفتهما من أصحاب الرأي وهو من أصحاب الحديث. وانتقد أصحاب الحديث أيضا لأنهم يأخذون بالقياس بينما هو من أصحاب داود الأصفهاني الذي يرفض التأويل القياسي ويميل إلى الاجتهاد العقلاني على أساس ظاهر النص (الكتاب، السنة) لا باطنه. فالكتاب «هو جامع علوم الأولين والآخرين» (الفصل، جزء 2، ص 234). ونص في غير موضع «على أصول البراهين» (جزء 2، ص 236). وبالتالي فإن «كل ما صح ببرهان أي شيء كان فهو في كلام الله عز وجل» (جزء 2، ص 238). ولا تعارض بين ما يصح بالدليل البرهاني (الأدلة البرهانية) وآيات الكتاب، لأن «ما قامت عليه البراهين فهو في القرآن والسنة موجود نصا، واستدلالا ضروريا» (جزء 2، ص 240).

انطلاقا من قاعدة «البرهان الضروري» وهو عنده ضروري سمعي، أو نظري مشاهد، أو إقناعي خارجي، يعقد ابن حزم مصالحة بين الشريعة والحكمة ويفسر الآيات والأحاديث علميا استنادا إلى الأدلة البرهانية العقلية في عصره. وكلها برأية تؤكد ما جاء به الكتاب. ويهاجم بعنف كل تفكير خرافي وغير برهاني وينتقد الطرق الثلاثة التي دافعت عن الشريعة «إما بألفاظ ينقلون ظاهرها ولا يعرفون معانيها ولا يهتمون بفهمها، وإما بمسائل من الأحكام لا يشتغلون بدلائلها ومنبعها (...) وإما بخرافات منقولة عن كل ضعيف وكذاب وساقط، لم يهتبلوا قط بمعرفة صحيح منها من سقيم ولا مرسل من مسند (...)» (جزء 2، ص 234).

يطرح ابن حزم إلى جانب البراهين الضرورية فكرة «تآلف الآيات» أي الأخذ بالآيات كلها كدليل على أصل أو لإثبات الأشياء أو نفي وجودها و»من جمعها كلها فقد آمن بجميعها» وأخذها كوحدة كلية للرد على شبهة أو لتأكيد حقيقة أو دحض خرافة كتلك التي أطلقتها طائفة جاهلة تقول إن «الأرض على حوت، والحوت على قرن ثور، والثور على صخرة (...)» (جزء 2، ص236). ووفق منهج «تآلف الآيات» والحس العقلي والبراهين الضرورية يبدأ ابن حزم في تقديم تفسير علمي للكون، الفلك، الأرض وكرويتها، الدوران، والحركة مستخدما الآيات (وحدتها الكلية) من جهة والحس العقلي(البرهان الضروري) من جهة أخرى كدلالات على صحة هذا الأمر أو خطأ ذاك. وتوصل إلى نتائج عقلية فائقة الأهمية قياسا إلى عصره وزمانه خصوصا من ناحية تأكيده على كروية الأرض، وغياب الشمس وشروقها، ورفضه تحديد عمر الأرض «ومن ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل فقد كذب» (جزء 2، ص 258).

يؤمن ابن حزم بأن هناك بداية ونهاية إلا أنه يرفض تحديد زمن للبداية وتحديد ساعة للنهاية، فذلك يتنافى مع الكتاب والسنة ويتعارض مع الأدلة البرهانية والحس العقلي والضرورة إضافة إلى المعلومات والوقائع التاريخية. كيف يكون عمر الأرض 7 آلاف سنة بينما يقول فاتح الهند محمود بن سبكتكين الغزنوي (توفي 421 هجرية/ 1030م) إنه وجد في الهند مدينة يؤرخون لها بـ 400 ألف سنة. ويستنتج انطلاقا من هذه المعلومة (الدليل البرهاني) على أن قدم الأرض أبعد من كل الفرضيات المتداولة في عصره.

على رغم حذره الشديد في تفسير كل ظاهرة، تورط ابن حزم في تأويلات علمية برهانية مستخدما في إثباتها بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كتفسير قوله تعالى «وكُل في فلك يسبحون» فذكر أنها «برهان ضروري» يشاهد بالعيان على أن الشمس تدور حول الأرض «من مشرق إلى مغرب، ثم من مغرب إلى مشرق» (جزء 2، ص 244). فهو في تفسيره للآية استند على الحواس التي هي برأية «المنافذ الموصلة» على العالم والنفوس البشرية فرأى أن الشمس تدور وليس الأرض تسبح أي تدور حول الشمس.

آنذاك كانت مختلف النظريات العلمية تؤكد على مركزية الأرض وهي نظريات استخدمها ابن حزم لتقديم تفسير جديد للقرآن في ضوء علوم عصره وهو أمر يعتبر بمقاييس زمانه خطوة متقدمة فتحت الطريق أمام غيره من الأئمة والعلماء والفقهاء للخوض في هذه الحقول من دون تردد.

لم يتردد ابن حزم في استخدام آخر الاكتشافات العلمية في عصره كمفاتيح لإعادة تفسير الآيات والأحاديث بمنطق عقلي ومنهج برهاني. فالأدلة العلمية هي أدلة برهانية لا تتعارض مع الإيمان والشريعة بل هي إثباتات ملموسة لصحة العقيدة. لذلك يستنكر الاتجاهات المضادة للعلوم والمعرفة ويمتدح فوائد تلك الكتب العلمية والفلسفية في حال فهمت على حقيقتها وأصولها. وبرأية أنها في الجوهر لا تتعارض مع الشريعة، فهي في معناها وثمرتها «والغرض المقصود نحوه بتعلمها، ليس هو شيئا غير إصلاح النفس» وهي تستعمل «في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد، وحسن السياسة للمنزل والرعية»، وهذا هو نفسه «لا غيره هو الغرض في الشريعة» وهذا ما لا خلاف «فيه بين أحد العلماء بالفلسفة، ولا بين أحد من العلماء بالشريعة». وبرأية كل من زعم الانتماء إلى الفلسفة وأنكر الشريعة جاهل «على الحقيقة بمعاني الفلسفة» وبعيد عن «الوقوف على غرضها ومعناها» (الفصل، الجزء الأول، صفحة 171).

بهذا الوضوح حدد ابن حزم لقاء الفلسفة مع الشريعة، فحدود اللقاء هي مقاصد الفلسفة وغرض الشريعة وفي معناهما (محاربة الرذائل وتبيان الفضائل والبرهان على الحق وتفرقته عن الباطل) يلتقيان على أكثر من صعيد وحقل. لذلك اعتبر كل من يحارب الشريعة باسم الفلسفة هو على خطأ لأنه لا يفهم الفلسفة ولا يعرف الشريعة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2436 - الخميس 07 مايو 2009م الموافق 12 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً