الركيزة الثالثة: هي القوة العسكرية: وهنا يصبح الجيش الأداة المباشرة للوصول إلى السلطة أو أداة التهديد بالتدخل والتخلص من السلطة المدنية. وتاريخ باكستان معظمه عانى من هذه الحالة. ولكن ثمة مبررات منطقية لذلك ومنها أن باكستان كدولة قامت بعد حالة من الحرب الأهلية والانفصال وتجاور عدو أو خصم ضخم، ومن ثم اعتبر الجيش هو حامي الوطن وحارسه وهو أساس الدولة وراعيها. ومنها ان السلطة المدنية افتقرت للقائد الديمقراطي الحقيقي بعد محمد علي جناح، فكان القادة يفتقرون إلى الشعبية أو يفتقرون للشرعية الدستورية، ولعل الاستثناء الوحيد هنا هو ذو الفقار علي بوتو الذي كان حاكما شعبيا ديمقراطيا تحول إلى الدكتاتورية الفردية أدت إلى انقلاب رئيس أركانه ضده وإعدامه. القادة من حزبي الشعب أو الرابطة الإسلامية مثل بينظير بوتو أو نواز شريف عبّرا عن شرعية ارستقراطية إقطاعية اتسمت بالفردية والاستعلاء والفساد رغم ما لدى كل منهما من شعبية عند انتخابه ولكن سيطرته على القرار دون الالتجاء للأساليب الديمقراطية الحقيقية كان مؤدى ذلك الإطاحة بكل منهما أكثر من مرة ولم يكمل أي منهما مدته القانونية كحاكم منتخب.
المشكلة الراهنة أن الركيزة الكارزماتية للزعيم أصبحت غير موجودة، والايديولوجية الإسلامية تحولت للتطرف والتشدد، والركيزة الثالثة وهي الجيش تراجعت قوته نتيجة لعدة عوامل في مقدمتها إخفاقه عن أداء دوره الطبيعي وهو حماية أرض الوطن ووحدته الإقليمية. فهزم في حرب انفصال أو استقلال بنغلاديش العام 1971 وهزم قبل ذلك أمام الهند العام 1965، وهزم في معارك جزئية ومناوشات. كما أخفق في تحقيق هدفه الوطني بإعادة كشمير موحدة، ولكن الأخطر هو هزيمته أمام قبائل المناطق الشمالية الغربية وأمام حركة طالبان الإسلامية في منطقة سوات واضطراره لعقد اتفاق يسمح لها بإقامة الأحكام الإسلامية في إقليمها. هذا الإخفاق الخطير ليس للجيش فحسب بل للنظام السياسي بأسره سواء في السلطة (حزب الشعب وحلفاؤه) أو في المعارضة (حزب الرابطة الإسلامية وحلفاؤه) لأن أساس النظام السياسي هو المساواة بين أبناء البلد الواحد في الخضوع للقانون، وأساس بناء النظام الحديث لأية دولة هو وحدة العلم، والعملة، والسياسة الخارجية، والدفاع والخضوع للقانون. فإذا كان لمنطقة سوات قوة عسكرية، وقانون مختلف، فإذا نحن أمام بداية الانهيار للدولة الموحدة وللنظام السياسي أخذا في الحسبان أن باكستان خليط من الأعراق والقوميات والطوائف القاسم المشترك بينها هو الوحدة الإسلامية أو الهوية الإسلامية الافتراضية والخضوع لسلطة القانون. وفي العادة العسكريون يهتمون بالشرعية النابعة من فوهة البندقية ويعطي بعضهم القانون إجازة مفتوحة أو يفسرونه ويعدلونه وفقا لإرادتهم.
نحن إذا أمام مرحلة خطيرة في النظام السياسي الباكستاني بل في كيان ووجود دولة باكستان يزيد من خطورة هذه المرحلة عدة اعتبارات: الأول اشتداد الصراع السياسي بين الاتجاهات السياسية. الثاني اشتداد الصراع الديني الطائفي؛ فالقتل على الهوية الدينية الطائفية أثناء الصلاة وفي المساجد أصبح من السمات السائدة. الثالث اشتداد الصراع الاجتماعي بين أصحاب الثروة والفساد والرشوة وهم القلة وبين الغالبية العظمى من الشعب الفقير الجاهل. الرابع اشتداد العصبيات العرقية؛ فالبلوش يرون أنفسهم أحق بدولة مستقلة والبشتون يتطلعون للشمال الأفغاني حيث الانتماء القبلي والسند لهم ذاتيتهم وكذلك المهاجرون والبنجاب يمثلون أغلبية السكان ويشعرون بأنهم مبعدون عن السلطة، وهكذا نجد حالة من الصراع الظاهر والمستتر لا تنبئ بخير. الخامس العدو التقليدي عبر الحدود الشرقية وهو الهند تتعاظم قوتها ووحدتها وتمثل تجربتها الديمقراطية ظاهرة فريدة تستحوذ على اهتمام عالمي، والجار من الشمال ينظر بعين الشك والريبة لباكستان والجار من الغرب له خلافاته وصراعاته المستترة حينا والظاهرة حينا آخر. السادس الحليف الدولي وهو الولايات المتحدة لا يمكن الاعتماد عليه لأن قراراته مرتبطة بمصالحه ومن يستطيع تحقيقها، ولهذا عقد اتفاق شراكة استراتيجية مع الهند، وأتاح لها توسيع نفوذها في أفغانستان، ويسعى لحوار مع إيران تعطي للأخيرة دورا إقليميا في الخليج وفي أفغانستان وربما آسيا الوسطى وربما لو أخفقت باكستان كدولة سوف يكون لذلك أثره في تعزيز دور إيران فيها كما حدث في العراق.
السؤال الذي نطرحه: هل هذا سيناريو الكارثة؟ نقول: نعم، وفي الوقت نفسه لا يمكن استبعاد عودة الروح للجسد المحتضر، وبعث الحياة في الموتى أو شبه الموتى، فربما يحتكم القادة للضمير الوطني، وربما يتحرك الجيش بقوة وبأسلوب مختلف لاستعادة دوره في الحفاظ على سيادة الوطن وترابه، وربما تتغير المعطيات الدولية والإقليمية ويرى العالم مصلحة له في الحفاظ على باكستان الموحدة ويدرك خطأ السياسات الأميركية من بوش وسابقيه إلى أوباما وإدارته التي جعلت نظرتها لأفغانستان وباكستان شبه موحدة وهما كيانان مختلفان اختلافا كبيرا في التاريخ والثقافة والدور السياسي منذ نشأتهما كدول مستقلة. ولكن الأمل المفترض أن يستطيع الجيش الباكستاني استعادة زمام المبادرة وضبط الأمور في ظل إخفاق السياسيين المدنيين وتصارعهم، وتطور الفكر والتيار الديني نحو العنف والتطرف. إن وجود السلاح النووي في باكستان ربما يمثل عنصر الأمل في إنقاذ الدولة بطريقة غير مباشرة حتى لا تقع في أيدي متطرفين متهورين لا يحتكمون لمؤسسات ونظم وقواعد يرعونها لمصلحة بلادهم وإقليمهم والعالم بأسره. وإذا كان هذا هو الأمل فلا يمكن التقليل من المخاطر الجمة المحكومة بكيان الدولة. ولو حدث ذلك فسيكون له آثاره الخطيرة على منطقة الخليج العربي ودوله.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2435 - الأربعاء 06 مايو 2009م الموافق 11 جمادى الأولى 1430هـ