العدد 2433 - الإثنين 04 مايو 2009م الموافق 09 جمادى الأولى 1430هـ

العيش المرن داخل الجماعة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

لا تسمح الجماعات القمعية الدينية أو الطائفية أو العرقية أو القبلية بحرية اختيار أسلوب الحياة لأفرادها، وهي لا تتقبل منهم أن يتعاملوا بمرونة فيما يتعلق بالعيش داخل الجماعة وخارجها في الوقت ذاته، فليس للفرد في هذه الجماعة سوى أن ينغمس بكليته داخل الجماعة. وفي العادة، لا تعترف هذه الجماعات بما يسميه الأنثروبولوجي الفرنسي روجي باستيد (1898-1974) بـ «مبدأ التقسيم إلى مقصورات» في حياة البشر . وهذا مفهوم ابتكره روجي باستيد بعد اكتشافه العالم الديني للسود الأفارقة في البرازيل Afro-Brazilian ، حيث لاحظ أن «بإمكان السود أن يكونوا، في آن واحد، ومع غاية الصفاء، أتباع عبادة الكاندومبلي الأتقياء، وأعوانا اقتصاديين متأقلمين تماما مع العقلانية الجديدة»، وليس في هذا أي تناقض؛ لأن هؤلاء الذين يعيشون في مجتمع متعدد الثقافات يقسّمون العالم الاجتماعي إلى عدد من المقصورات أو إلى عدد معين من «الأقسام المتعازلة» بحيث تكون لهم فيها «مشاركات» ذات طبيعة مختلفة إلا أنها لا تبدو لهم متناقضة.

ومعنى هذا أن حضور الجماعة (عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها ولغتها...) ليس حضورا كليا لدى أفرادها، بل إن حياة هؤلاء وعالمهم الاجتماعي أشبه بعربة القطار المؤلفة من مجموعة من المقصورات وبإمكان المرء أن ينتقل من مقصورة إلى أخرى. ويسمح هذا التقسيم لهؤلاء بأن ينتموا لجماعتهم انتماء فعليا وصادقا، كما يسمح لهم، في الوقت ذاته، بأن ينخرطوا في «مشاركات» أخرى قد لا تكون مقبولة في عرف الجماعة أو معتقداتها. ومن الأمثلة التي تذكر على ذلك مثال المهاجرين الأفارقة في فرنسا والذين ينحدرون من مجتمعات مسلمة ويعملون في أكبر مسالخ لحم الخنزير الأوروبية، فبالنسبة لهؤلاء فإن التماس اليومي بلحم الخنزير «هو من ضرورات العمل الصناعي، معتبرين إياه، وبكيفية أداتية صرف، مجرد كسب للقوت، ولا يمس في شيء هويتهم الإسلامية المصانة في ما عدا ذلك». ولا يعني هذا أن هؤلاء يتعاملون مع هويتهم الإسلامية بلامبالاة أو بطريقة منافقة، بل يعني أن عالم هؤلاء مقسم إلى عدد من «المقصورات»، ولكل واحدة من هذه المقصورات اشتراطات ومتطلبات خاصة تختلف عن المقصورات الأخرى، وهم يلتزمون باشتراطات كل مقصورة على حدة، حيث تجدهم، أثناء العمل، ملتزمين بمتطلبات العمل الصارمة، كما تجدهم، أثناء العبادة، أتقياء مخلصين، وفي أوقات اللهو تجدهم منغمسين في لحظتهم العابثة بصورة كلية... وهكذا يتم الانتقال من مقصورة إلى أخرى، ومن دور إلى آخر. ويسمي ميشيل مافيزولي هذه العملية بمتوالية «حالات الصدق المتتابعة» حيث ينغمر المرء كلية «جسدا وروحا في نشاط مهني معين، وأحيانا في أيديولوجيا أو علاقة حب ما، بيد أن الأصالة التي يوظفها في هذا العطاء، ليست سوى لحظية، وحين يتم إشباعها يتم لعب دور آخر بهذا القدر أو ذاك من الأصالة».

يمكننا الإشارة هنا إلى مفهوم كليفورد غيرتس عن «قوة النظام الثقافي ومداه»، ويقصد بالقوة تلك «التفاصيل التي عن طريقها يتم استبطان نموذج ما في شخصيات الأفراد الذين يتبنونه ومركزيته أو هامشيته في حياتهم، ونعرف جميعا بأن مثل هذه القوة تختلف من فرد إلى آخر، فبالنسبة للبعض، يكون ولاؤه الديني هو محور وجوده كله، فإيمانه هو ما يعيش من أجله وهو غالبا ما يكون مستعدا للموت من أجله». أما المدى فيدل على اتساع حدود سيطرة النموذج أو انحسارها في الحياة، فالشخص الذي يكون ولاؤه الديني هو محور وجوده سيكون «أكثر ميلا لتوسيع دائرة سيطرته (أي النموذج) على قطاعات واسعة من الحياة» بحيث يمتد حضور هذا النموذج إلى كل شيء في حياة الفرد «من أكله إلى مردود انتخاباته». صحيح أن كل الناس يتبنون نموذجا ثقافيا ما، إلا أن الحاصل أن معظم الناس يتبنون هذه النماذج الثقافية بصورة مجزأة ومتقطعة. وبحسب غيرتس فإن الناس لا يعيشون داخل النموذج كل الوقت، وحتى القديس لا يعيش «في العالم الذي تشكله الرموز الدينية كل الوقت، وغالبية الناس يعيشون فيه فقط للحظات». وهذا العيش المؤقت أو المتقطع داخل النموذج هو الذي يسمح للبشر بالانخراط في مشاركات متنوعة قد تبدو للآخرين متناقضة وغير منسجمة.

ومع ذلك فإن المجتمعات ذات الانتماء مفرط الكثافة لا تعترف بـ «مبدأ التقسيم»، بل هي تصنف كل مشاركة للفرد خارج إطار الجماعة وخارج ما تسمح به أعرافها ومعتقداتها على أنها انحراف أو خيانة. والسبب أن العالم الاجتماعي للجماعة ينبغي أن يكون هو ذاته العالم الاجتماعي للفرد، فليس للفرد عالمه الخاص ليقسّمه ويقطّعه إلى أقسام مختلفة. وهذا يعني أن حضور أعراف الجماعة ومعتقداتها ومصالحها ينبغي أن يكون كليا بحيث يستغرق حياة أفرادها كلها. وبهذا يتأتى للفرد أن يعيش داخل هوية الجماعة كل الوقت، كما يتأتى لهوية الجماعة أن تعيش داخل الفرد كل الوقت.

وفي هذه المجتمعات فإن الفرد لا يستبد به شعور عدمي بالعزلة والانطواء وفقدان المعنى لكونه يفتقر إلى حسّ الانتماء إلى الجماعة، بل لأن حسّ الانتماء هذا صار مفرطا في كثافته إلى الحد الذي تذوب معه أية ملامح مميزة لهوية الأفراد، أو إلى الحد الذي تُخنق فيه حرية الأفراد واستقلاليتهم، وتطمس قدرتهم على الاختيار واتخاذ القرارات التي تعنيهم بملء إرادتهم. وهنا تصبح الجماعة خطرا على الأفراد بعد أن كان الأفراد خطرا على الجماعة كما في حالة المجتمعات الهشّة المفرطة في فردانيتها كتلك التي ينتقدها إتزيوني وغيره من الجماعاتيين.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2433 - الإثنين 04 مايو 2009م الموافق 09 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً