بعد أن سقطت القلاع العربية الواحدة تلو الاخرى نتيجة هزائم جيوش الانظمة في الحقبة التاريخية الممتدة منذ العام 1948، تتجه انظار وقلوب وآمال الشارع العربي نحو آخر القلاع العربية الواقعة على امتداد الارض السورية - اللبنانية - الفلسطينية حيث مسرح المعركة الاخيرة والمصيرية بين العروبة كفكرة وثقافة وتاريخ تجمع العرب داخل منظومة قومية واحدة، وبين تحالف قوى الشر للصهيونية واليمين المتطرف في الادارة الاميركية.
داخل هذه القلعة لم تزل الثوابت العربية كما كانت. تلك الثوابت التي قامت ولاتزال على اساس الحفاظ على وحدة المصير العربي، والدفاع عن الحقوق العربية، وترسيخ ثقافة المقاومة للاحتلال والعدوان، والانتصار الدائم للعمل العربي المشترك.
لذلك يتميز الخطاب العربي داخل هذه القلعة بقربه من نبض الشارع العربي الحي لأنه يقوم على تكريس تلك الثوابت. وبعد فاجعة سقوط بغداد وليس على اسوارها من يدافع عنها في مشهد مأسوي حقيقي، لابد وان تأخذ خطة إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة العربية طريقها السريع نحو التنفيذ، ما عبر عنه التحرك الحاسم لتحالف قوى الشر التي هددت سورية بحرب استباقية إن هي لعبت دورا يفشل خططها المقبلة لفرض هيمنتها المطلقة على المنطقة انطلاقا من تدمير وتركيع العراق حتى تصفية القضية الفلسطينية. والهدف من كل هذه التهديدات هو حصار سورية وتحييدها وعزلها وتخويفها لتتخلى عن ثوابتها العربية وترفع غطاءها عن المقاومة لتسهيل ضربها. وصار على الشارع العربي ان يراقب بقلق كيف سيكون موقف سورية وهي تقف وحدها في عين العاصفة، بعد ان كانت قد خسرت عمقها الاستراتيجي وموقعها الاقتصادي المتميز مع عراق الأمس.
ولكن المواطن العربي لايزال يؤمن بصلابة وعقلانية ومرونة سورية السياسية في التعامل مع التهديدات والمزاعم الباطلة. فعندما اتهموا سورية بتأييد نظام صدام حسين اعلنت أنها مع العراق وشعبه ضد حرب عدوانية تفتقر إلى الشرعية الدولية. وعندما اتهموها بإيواء رموز النظام العراقي ردت بإغلاق حدودها مع العراق. وعندما اتهموها بامتلاك الاسلحة الكيماوية ردت بأنها مع التوصل إلى اتفاق لحظر اسلحة الدمار الشامل في كل المنطقة. وعندما اتهموها بالوقوف وراء «حزب الله» أكدت بأن هذا التنظيم يمثل حركة المقاومة اللبنانية وليس الارهاب. وعندما اتهموها بإيواء منظمات فلسطينية ارهابية ضد السلام، ردت بأن المقاومة الفلسطينية تنشط فقط داخل الاراضي المحتلة. وقد عاشت آخر القلاع العربية ثقافة المقاومة منذ ما قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عندما تحقق اول نصر عربي على «اسرائيل» بفضل الاداء المتميز للمقاومة اللبنانية بقيادتها الفذة. وقد كان من اسباب هذا التميز في الاداء وضوح الرؤيا والاهداف، ونوعية التنظيم، والانضباط الصارم، والتماسك البنيوي، والجاهزية القتالية المتألقة، والروح المعنوية العالية، وصلابة مقاتل جبال الجنوب، ومستوى تدريبه، وإيمانه بقضيته واصراره على القتال حتى الاستشهاد او النصر. فكان النصر. وما الانتفاضة الفلسطينية التي تقف اليوم ببسالة وعزم وثبات في معركتها الملحمية ضد الاحتلال الصهيوني، على رغم التفوق النوعي للمحتل وثقافة «اوسلو» داخل السلطة الفلسطينية، إلا امتداد لثقافة المقاومة داخل هذه القلعة الصامدة.
كانت هذه ولاتزال اسباب القوة داخل آخر القلاع العربية. ولكنا يساورنا القلق فيما يتعلق ببعض اسباب الضعف آملين في زوالها إذا كان لهذه القلعة العربية ان تعصى على اعداء الامة. من هذا المنطلق لابد من التحرك السوري السريع على جبهتين. الجبهة الاولى هي داخل لبنان إذ لم تعد للجيش السوري ضرورة للبقاء وخصوصا مع التبرم والرفض المتنامي للشعب اللبناني وقدرة سورية على استرجاع مواقعها الاستراتيجية في سهل البقاع متى ما تعرضت للعدوان الخارجي ضمن اتفاق دفاع مشترك مع لبنان. تبقى الجبهة الداخلية حيث الاستحقاق الأكبر في تنفيذ المبادرة التي اطلقها الرئيس الأسد في بداية عهده لترسيخ الديمقراطية وتحديث الاقتصاد ما سيضفي القوة والتماسك داخل هذه الجبهة، ويشرك جميع القوى الوطنية في الدفاع عن المصير المشترك، ويسمح بالمضي في تنفيذ خطة النقلة النوعية لسورية إلى رحاب الدولة الحديثة.
وما مطالب الادارة الاميركية الاخيرة بتفريغ هذه القلعة العربية من ثوابتها وتجريدها من ثقافة المقاومة والدفاع عن المصير العربي، إلا محاولة منها لدفع هذه القلعة الصامدة إلى الاستسلام والسقوط باعتباره المشهد الاخير في تراجيديا استسلام وسقوط هذه الامة
العدد 243 - الثلثاء 06 مايو 2003م الموافق 04 ربيع الاول 1424هـ