تُعتبر الجماعة، في المنظور الليبرالي الكلاسيكي، موقعا غير مرغوب فيه، كما أنها مصدرا للضغط والإكراه والقسر، ولهذا يفضل بعض الليبراليين العيش خارج الجماعة لا لأن الجماعة هي مصدر الإكراه فحسب، بل لأنه ليس على المجتمع ولا على الدولة أن يقولا للمرء كيف يجب أن يعيش حياته، فكل امرئ هو أدرى بمصلحته واختياراته. ويرجع هذا الرفض الليبرالي للتدخّل الخارجي الأبوي إلى مفهوم الحرية لدى كانط، وبحسب كانط فإنه «من الممكن التعبير عن حرية الفرد بوصفه إنسانا، وكمبدأ لدستور دولة، طبقا للمعادلة التالية: لا يحق لأحد أن يلزمني بأن أكون سعيدا وفقا لمفهومه لسعادة الآخرين، لأن كل فرد قد يسعى لتحقيق سعادته بالطريقة التي يجدها ملائمة له». وفي هذا التصور، فإن أسوأ دولة استبدادية يمكن تصورها، هي الدولة الأبوية، حيث «يكون الرعايا بمثابة أطفال قاصرين لا يميزون بين ما هو مفيد أو ضارّ لهم، ويُلزمون بالتصرف بطريقة سلبية تماما والاعتماد على رأي الحاكم في الكيفية التي ينبغي لهم بها أن يكونوا سعداء».
يتحدث كانط هنا عن الدولة وضرورة انسحابها لتترك للأفراد الحرية في البحث عن السعادة بالطريقة التي يرونها ملائمة لهم، إلا أن الليبراليين اللاحقين أضافوا المجتمع إلى الدولة، وطالبوا بانسحاب الطرفين معا، وعدم تدخّلهما في صياغة مفهوم عام عن السعادة وإلزام جميع الأفراد به. لا يعني هذا أن البقاء داخل الجماعة هو شرّ مطلق كما قد يفهم من بعض الأطروحات الليبرالية الراديكالية، فقد يكون انتماء الفرد إلى جماعة تتقبله وتعتبره جزءا منها، مصدرا أساسيا من مصادر الاتزان النفسي والشعور بالأمان والطمأنينة. وهذه واحدة من الحجج الأساسية لدى الجماعاتيين، وبحسب أميتاي أتزيوني، فإن الحجة الجماعاتية الأساسية تقول «إن العضوية والمشاركة في مجتمعٍ هي في آن معا مهمة بالنسبة لطريقة عمل الإنسان وأساسية من أجل تطوير هويته وتنمية شخصيته». ولهذا فإن هذه العضوية، من منظور الجماعاتيين، جيّدة بحد ذاتها وأساسية من أجل نمونا كبشر «كاملي الشخصية»، وخاصة إذا ثبت أن فقدان هذه العضوية «هو أحد الأسباب الأساسية الذي يُشعر الإنسان بالعزلة والانسلاخ والعجز ويدفع به إلى الابتعاد أكثر عن المجتمع أو إلى التصرّف العدائي حيال المجتمع والانضمام إلى العصابات والميليشيات (لكي يجد نفسه ضمن مجموعة) أو هو يكثر من استعمال المخدرات والكحول أو كليهما».
تلتقي التعددية الثقافية مع الجماعاتية في تقدير قيمة الجماعة وأهمية الانتماء الثقافي. فتشارلز تايلور، على سبيل المثال، يشدّد على أهمية الانتماء إلى الجماعة كمصدر من مصادر الذات والهوية الفردية. وبحسب تايلور فإن الأشخاص قد يتعاملون مع انتمائهم إلى الجماعة أو الأمة على أنه «الإطار الذي عبره يستطيعون التعبير أين يقفون من الأسئلة حول ما هو جيد (خير)، أو جدير بالاهتمام، أو رائع، أو ذو أهمية. لنفترض خلافا للحقيقة، أنهم فقدوا هذه الهوية أو هذا الانتماء، فإنهم سيكونون وكأنهم في عرض البحر، لا يعرفون الإجابة عن كبير من الأسئلة ولا حتى معاني الأشياء بالنسبة لهم». وبيخو باريخ، من جهته، يرى أن من مرتكزات التعددية الثقافية الإيمان بتجذّر الوجود الإنساني في الثقافة. ويذهب إلى القول بأن «البشر متجذّرون ثقافيا بمعنى أنهم ينمون ويعيشون في عالم مبنيّ بصورة ثقافية، وأنهم ينظّمون حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية بفضل نظام من المعنى والدلالة مشتقٍّ ثقافيا».
تأتي تشديدات إتزيوني وتايلور وباريخ على قيمة الجماعة والانتماء بما يوفرانه من إطار مرجعي للبشر كردّ فعل على تجاهل الليبرالية للجماعة وقيمة الانتماء الثقافي في حياة الفرد، إلا أن هذه التشديدات قد يساء تأويلها بحيث تفهم على أنها تجاهلٌ لقدرة الأفراد وحقهم في الاختيار بين الجماعات، أو بين الانتماء وعدمه. كما قد يُفهم ذلك على أنه تجاهلٌ لحقيقة أخرى وهي أن الجماعة التي يكنّ لها هؤلاء كل التقدير قد تنقلب على أفرادها لتصبح جماعة قمعية تمارس الضغط والإكراه على أفرادها لإجبارهم على الالتزام بواجباتها الخصوصية، الأمر الذي يعني أن الانتماء للجماعة بالإكراه أو الانتماء إلى جماعة مفرطة في التزاماتها وواجباتها، قد يسبب أمراضا لا تقلّ خطورة عن تلك الأمراض التي يسببها عدم الانتماء وفقدان الجماعة من عدمية وعزلة وانطواء على الذات وضياع وانحراف وإفراط في تعاطي الكحول والمخدرات. إتزيوني نفسه لاحظ أن «المجتمعات المفرطة تسبب أمراضا من نوع آخر»، إلا أنه لا يعير اهتماما لهذا النوع من الأمراض، ويكتفي بذكر اليابان كمثال على المجتمعية المفرطة «حيث ألغيت الشخصية الاستقلالية وأهملت الحقوق وضبطت الاستقلالية بقسوة».
ومع هذا، فإن علينا أن نتنبه إلى حقيقة مهمة، وهي أن تايلور وإتزيوني وباريخ إنما يتحدثون عن مجتمعات غربية بالدرجة الأولى، وهي مجتمعات قطعت أشواطا كبيرة في ممارسة الليبرالية كأسلوب حياة حتى بلغت الفردية أقصاها وصارت قرينة الأنانية والنفعية الذاتية، وصارت الحرية والاستقلالية تهددان الحياة الاجتماعية العامة وقيم التضامن والثقة المتبادلة والشعور بالمسئولية العامة تجاه المجتمع. ثم إن إتزيوني يتحدث عن الجماعة أو المجتمع ويقصد به، بالدرجة الأولى، علاقات الجيرة والصداقة وروابط المجتمع المدني ذي العضوية الطوعية. وبحسب المنظور الجماعاتي الذي يتبناه، فإن هذه علاقات مهمة لأنها تحمي الفرد من الشعور العدمي المدمر بأنه كائن معزول ويعيش لوحده في مهب الريح أو في عرض البحر. بيخو باريخ كذلك يستدرك على تشديده السابق بتوضيح مهم، وهو أن تجذر البشر ثقافيا لا يعني «أنهم محدّدون بثقافتهم، وأنهم غير قادرين على الارتفاع فوق تصنيفاتها في التفكير والتقييم النقدي لقيمها ونظام المعنى، بل إنهم، وبدلا من ذلك، يتشكلون بعمق بواسطتها، إلا أنهم يستطيعون التغلب على بعض - وليس كل - تأثيراتها».
يختلف الوضع في حال تلك المجتمعات التي تعاني من طغيان التضامن والالتزام والقيم الجماعية. فهذه مجتمعات يمكن أن توصف بأنها مفرطة التضامن أو ذات انتماء «مفرط الكثافة» إذا استخدمنا مصطلحات إتزيوني، كما هو الحال لدى الجماعات الإثنية أو الدينية أو القبلية التي تتعامل بصرامة مع التزامات أفرادها وواجباتهم تجاهها. يمكن أن يشعر الفرد في هذه المجتمعات بالأمان والطمأنينة والاستقرار، إلا أن هذا شعور لا يتحصّل عليه الفرد مجانا ودون مقابل، بل عليه أن يدفع ضريبة ذلك من خلال الالتزام الصارم بواجبات الجماعة، والالتزام بحمايتها والدفاع عنها وحتى التضحية بحياته ورفاهيته من أجلها. وهذه حالة من المديونية المتبادلة، إلا أنها قد تكون مديونية غير متكافئة وغير عادلة فيما يتعلق باقتسام المنافع بين الفرد وجماعته، بحيث يطلب من الفرد الوفاء بالتزامات باهظة (التضحية بحياته أو حياة أولاده أو رفاهيته) نظير قبول عضويته في الجماعة وتمتعه باحترامها واعترافها. فهذا اقتسام للمنافع، إلا أنه غير عادل. نعم، قد يكون هذا الاقتسام عادلا في حال كان بقائي على قيد الحياة مرهونا بما توفره لي جماعتي من حماية تجاه اعتداءات خارجية تهدد حياتي، ولكنه سيكون اقتساما ظالما في غير هذه الحالات، وهي حالات استثنائية جدا، وعادة ما تكون في مجتمعات مفرطة التضامن وفي دولة فاشلة أو عاجزة أو شديدة الهشاشة. والثابت أن الدولة حين تكون هشّة وعاجزة، فإن حضور الجماعة يكون مركزيا في حياة أفرادها؛ لأن الجماعة، في هذه الحالة، لا تمنح أفرادها المعنى فحسب، بل تقوم مقام الدولة في توفّير معظم الخدمات التي كان ينبغي على الدولة أن تضطلع بها. وفي هذا النوع من المجتمعات يصبح التفكير في فن العيش خارج الجماعة ضربا من المستحيل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2426 - الإثنين 27 أبريل 2009م الموافق 02 جمادى الأولى 1430هـ