في مقال متميز لجوزيف ناي أحد أبرز علماء العلاقات الدولية نشره مؤخرا عن المرحلة القادمة من الدبلوماسية الأميركية أكد أن القدرة الحقيقية للإدارة الأميركية الجديدة ستقاس بمهارتها في الجمع بين العناصر الرخوة والعناصر الصلبة للقوة، أي المزج بين القوة العسكرية والقوة اللينة الدبلوماسية وأدوات العلاقات الدولية المختلفة.
لكن تصورات النهضة القوية التي يحميها جيش قوي والتي قامت في أذهان القوميين ما زالت صحيحة، وإذا كانت الأمم الآن تنوع أدواتها فإن الجيش يبقى ركيزة أساسية لحماية النموذج الحضاري، ليس بالضرورة جيشا هجوميا توسعيا لكن جيشا دفاعيا حامٍ... وقوة ردع.
والحق أن مفهوم الردع مفهوم مركب، اهتمت به أدبيات العلاقات الدولية خاصة في ظل الثنائية القطبية، وارتبط بعملية بناء الأحلاف ونشر الصواريخ والتسلح النووي، وبعد أن اتجه العالم في الثمانينيات من القرن الماضي لقطبية واحدة وتغيرت رؤى الدفاع بناء على هذا المنظور، بدأ الاهتمام يزيد بدور التكتلات وصعود القوى الدولية الجديدة على الساحة وخاصة الصين لتنتقص من هيمنة القطب الواحد، وبدأنا نشهد استعادة روسيا لصوتها المفقود لعقد كامل كانت ترتب فيه بيتها من الداخل، وبدأت علاقات شمال الأطلنطي تشهد توترات وإن أفلحت الولايات المتحدة في كسبه لمعاركها طول الوقت.
الجيش القوي لم يعد الجيش القومي الذي تبنيه سواعد أبنائه، بل صار التعاون العسكري شرطا، وأصبحت التحالفات السياسية تحدد على أي لون سيكون هذا التعاون، وإلى أي مدى... وفي الوقت ذاته بدأت في ظل العولمة تحدث مفارقات بين الموقف العسكري والسياسة الخارجية للدول، فقد تستمر في تعاون لتقوية جيشها لكن تأخذ موقفا حادا في الساحة الدبلوماسية ضد نفس الشريك في التسلح والتدريب، نجد هذا في أوروبا بين فرنسا وسياسة أميركا، وإن اتفقتا تحت مظلة الناتو، نجده في تعاون تركيا مع «إسرائيل» عسكريا وإن اتخذت مواقف حادة ضد السياسة التوسعية، وهكذا.
الشاهد أن الدول اليوم تصنع نهضتها العسكرية والسياسية بشكل متنوع لا يوجد فيه خصومات طويلة الأجل ولا تحالفات خالية من التنازع، ولا شك أن العولمة ووجود تنوع في البدائل في القطاعات السياسية وعلى المستويات المختلفة تسمح بقدر من المناورة للدولة لتنويع الشركاء، ولكن يظل الجيش القوي مصدرا مهما للحماية، وتظل إرادة الدولة في دعم قوتها رغم السقف الموضوع من قبل المعاهدات الدولية التي وضعها الأقوياء وزحزحة السقف ثم التفاوض على الاحتفاظ بالوضع القائم مسألة مرهونة بالإرادة السياسية ووجود رؤية واضحة.
ثارت الدنيا على الهند وباكستان في مجال تطوير قنابل نووية، وبالمثل على إيران، لكن معطيات الواقع تفرض نفسها، وبعد المقاطعات والمحاربة تبدأ لهجة السطوة تتغير إلى لهجة المفاوض، والمتابع لمشهد العلاقات الإيرانية الأميركية يرى عجبا، ويفهم كم هي معقدة تلك العلاقات الدولية التي قد يغادر فيها الدبلوماسي كرسيه انسحابا من جلسة وتمارس دول عقوبات على دول أخرى ثم تعود الأصوات السياسية تدعو للحوار بل وربما الضم لمقاعد صناع القرار الدولي في منظمات دولية أو الانضمام لمعاهدات تنظم ولا تهدم ما تم من تحصيل للقوة بأبعادها المختلفة... وتلك لعبة السياسة.
مشكلة قوة الجيش ليست في المعادلة الخارجية لو كان هناك رأسا سياسيا مفكرا حريصا على سيادة الدولة، مشكلة الجيش هو أن يتم توظيف قوته لعسكرة ما هو سياسي ومدني في الداخل، وتلك أزمتنا المستمرة مع أنظمة الحكم التي تستند لشرعية الجيش، والحالات التي سلّم فيها الجيش السلطة للمدنيين كانت محدودة، وسرعان ما انقلب الجيش على الحكم الديمقراطي زاعما هشاشته وعدم قدرته على مواجهة التحديات والمخاطر، لكن حتى هذه الجدلية لم تحدث في عالمنا العربي سوى في السودان وموريتانيا وهما دولتان لهما من المشكلات ما ينوء بحمله العصبة أولوا القوة بدون نصير مجاور ولا تعاضد إقليمي للأسف.
عسكرة النهضة هي الأزمة، ولكن لا نهضة دون جيش قوي، إلا في معادلات خارجة عن الاعتيادي، وستظل اليابان بدرجة كبيرة استثناء يثبت القاعدة.
الركن الآخر للنهضة هي النهضة العلمية، وأن تكون نهضة إنسانية. فهناك أمم لديها نهضة علمية لكن لا يتم توظيفها لصالح الإنسان، بل لصالح نظام مهيمن أو نخبة حاكمة، في حين يظل القطاع الأوسع من المجتمع محروما من ثمرات تلك النهضة إذ يستمتع بها القادر على دفع ثمنها المادي فقط. وهناك ارتباط بين العسكرة والتقدم العلمي والتكنولوجي بالأساس، ففي الدولة الحديثة هناك قطاع ضخم لتطوير العلوم داخل الجيش، وهدفه هو دعم القوة العسكرية لكنه في النهاية يصب في خدمة المجتمع المدني الأوسع، في المجال الطبي كما في المجال الابتكاري، ولا ننسى أن شبكة الإنترنت بدأت كشبكة اتصال عسكرية في الجيش الأميركي ثم صاحبتها ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال فأثمرت تلك المساحة الافتراضية الهائلة التي لم يكن يتصورها أحد والتي تعيد تشكيل المجتمعات والعلاقات الإنسانية بشكل جديد وغير مسبوق.
النهضة العلمية لها أركان متنوعة، لكن دعم الدولة للبحث العلمي حاسم في هذا المجال، وكوريا الجنوبية مثال واضح على ذلك فرغم أنها دولة صغيرة لكنها نزلت لكل قوة منذ ثلاثين سنة بتمويل وتخطيط ضخم للبحث العلمي وقطاع التعليم واليوم هي رائدة وتتعامل بندية في هذا المجال مع أكبر الجامعات الأميركية وبشكل مذهل حيث لها على ترتيب أفضل جامعات العالم ما يربو على 30 جامعة ومؤسسة بحث علمي.
لكن البحث العلمي له شروط منها النهوض بالتعليم في كل مراحله وتحويل جزء ضخم من موازنة الدولة لقطاع التعليم والبحث العلمي وتشجيع المواهب وإرسال البعثات وتأسيس تبادل علمي مع الجامعات الكبرى في العالم، وهذه كلها شروط تحتاج دأبا وسعيا من الباحثين والعلماء للتواصل والحصول على التمويل الكافي للمشاركة الدولية ناهيك عن البنية التحتية الضخمة من معامل ومؤسسات بحث ومكتبات، وفي عالمنا العربي الجامعات مشلولة تماما وأستاذ الجامعة وخاصة في المجال العلمي له موارد دخل خارج الجامعة ولا يوجد مشاركة من قبل العلماء وأساتذة الجامعات في تخطيط السياسة العلمية والتعليمية نظرا للاستئثار بالسلطة والدول التي تمكنت من الاتفاق على مؤسساتها التعليمية لجأت لاستيراد النموذج الغربي وأحيانا بشكل تام من خلال فتح فروع لجامعات أجنبية مما أدى لضعف جامعاتها الوطنية العريقة فكانت النتيحة تعليم تابع لم يحقق أية تنافسية على المستوى الدولي في أي فرع من الفروع حتى الآن، ناهيك عن أن غياب المشروع الوطني الجامع يدفع بالعقول المتميزة للهجرة وهكذا تأتي إشكالية هجرة العقول، وفي الحالة المصرية فشلت الدولة في تسهيل عودة علماء كبار لهم اسم على الساحة الدولية لأنها لم تعطهم المقابل المادي والدعم الفني والمؤسسي، وحين عرضت عليهم بعضه لم تمنحهم السلطة والحرية أو تطلق يدهم في المساحات الموعودة ففضلت المفاوضات، وبقوا حيث هم، يزورون الوطن ويلقون المحاضرات لكنهم لا يرجعون بمعارفهم إليه كي ينهضوا به كما يحلم أبناؤه... بل يقول البعض أن الأنظمة تخشى من عودتهم لأنها لا تفكر إلا بمنطق المنافسة وتخشى أن يصبح هؤلاء منافسين لها ويُقدموا كبديل للنخبة الحاكمة التي لا تعرف شيئا عن التقدم العلمي ولا يهمها في كثير أو قليل تراجع وضع جامعاتها دوليا أو تردي البحث العلمي مادام كرسي الحكم راسخ وأقدامها ثابتة وهيمنتها على الأمر والمال كاملة... وبالطبع سيطرتها على الجيش.
في المقالات الماضية تساءلت عن سبب غياب النماذج الأخرى عن دراستنا، بالكاد نعرف ما يجري في الصين ونتابعه في الأخبار، أما أميركا فقد أرسلت أكبر أساتذتها للتدريس في الجامعات الصينية وفي الوقت ذاته للاطلاع على ما يجري وبناء نخب هناك على منهجهم في البحث والتحصيل والتقاط الجواهر من العقول ليعودوا بها، أما نحن فيهمنا الجواهر... فقط... والمظاهر... والمفاخر... والمباخر... أما العقول فنوردها للغرب وأما المنتجات فنستوردها... والأموال نبددها... والقيود نشددها... والمدافع للجيران نسددها...
إرادة وسيادة غائبة ونهضة طال انتظار بشائرها... تأتي الأزمة وراء الأخرى لتبدد بعض بشائرها... لكن سنظل نسعى بهمة عالية ونتطلع لها ونبحث عن مداخلها في عالم متغير.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2426 - الإثنين 27 أبريل 2009م الموافق 02 جمادى الأولى 1430هـ