سياسة الصدمات التي اتبعتها إدارة الرئيس باراك أوباما أخذت تعطي مفعولها في مرحلة انتقالية تفصل بين عهدين. فالمرحلة تحتاج إلى وقت حتى تستوفي شروطها وترتسم خطوطها إلى أن تستقر على قواعد تعيد إنتاج اللعبة السياسية.
إدارة أوباما لاتزال في المرحلة الانتقالية التي تتميز عادة باللون الرمادي والغموض في الرؤية والتردد في اتخاذ خطوات حاسمة حتى لا تكون ناقصة وتقع في قراءات خاطئة. والإشارات التي أطلقتها واشنطن باتجاه الانفتاح على دول أميركا اللاتينية ومن ضمنها كوبا تشكل استراتيجيا خطوة نوعية تريد تصحيح علاقات أضطربت وتأزمت في عهد «تيار المحافظين الجدد». والخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي في البرلمان التركي حاول تصحيح رؤية سلبية صنعها عهد جورج بوش في مواجهة الإسلام والعالم الإسلامي. والكلام الذي نقله المبعوث الأميركي جورج ميتشل إلى منطقة «الشرق الأوسط» عن حل الدولتين والمبادرة العربية للسلام شكل علامة فارقة في تعامل واشنطن مع طرفي النزاع في فلسطين.
هذه التوجهات الخجولة (الرمادية) أثارت غضب «تيار المحافظين الجدد» فشنت رموز التيار حملة مضادة تتهم أوباما بالضعف ومسايرة الخصوم وتقديم تنازلات لقوى تعادي الولايات المتحدة. واستخدم التيار مجموعة نقاط وأحيانا صورة مصافحة لنسج خرافات بشأن إسلام «حسين أوباما» السري وتعاطفه الضمني مع العرب واحترامه لحضارة المسلمين وثقافاتهم وتقاليدهم. ولم يقتصر الهجوم المضاد على سياسة الخارج وإنما ارتد إلى الداخل الأميركي ما اضطر الإدارة إلى الرد بسرعة وكشف تقارير عن دور الدوائر المخابراتية المتهمة بممارسة التعذيب في السجون والمعتقلات.
الهجمة المضادة التي أخذ «تيار المحافظين الجدد» يقودها إعلاميا لإرباك أوباما في الداخل والخارج تؤشر إلى نجاح سياسة الصدمات في إعطاء مفعولها في مرحلة انتقالية تتصف عادة بالتردد واختبار القوى وفحص الخيارات قبل اتخاذ القرارات الحاسمة. أوباما حتى الآن لم يقطع مع المرحلة السابقة ويرجح ألا يقطع نظرا للضغوط التي تمارسها اللوبيات ومراكز القوى في المؤسسات الثابتة، ولكنه يستطيع تعديل الزوايا وتدويرها باتجاهات تخالف جزئيا سياسات العهد المنصرم. والتعديل يحتاج إلى نوع من المرونة حتى لا تتصدع الإدارة وتتقوض خطوات التصحيح. والتعديل أيضا له مخاطره وسلبياته في حال امتدت المرحلة الانتقالية إلى فترة أطول من المتوقع.
أسوأ ما تواجه إدارة أوباما في الفترة الانتقالية هي «الفوضى» باعتبار أن كل الإطراف تعيش مرحلة انتظار وتبني حساباتها على توقعات وفرضيات واحتمالات. إيران مثلا تقرأ مستقبلها الإقليمي في ضوء ما ستقدمه واشنطن لها في إطار سياسة «اليد الممدودة» ومفاوضات «وجها لوجه». كذلك تركيا التي تعتبر الآن من القوى الإقليمية الصاعدة تراهن على لعب دور مهم في دائرة «الشرق الأوسط» يعوض خسارة موقعها في الاتحاد الأوروبي. حكومة أفغانستان أيضا تنتظر تبلور السياسة الأميركية في ضوء تداعيات الحدود مع باكستان شرقا وإيران غربا. وحكومة إسلام آباد تبدو في وضع مرتبك بسبب تعارض التوجهات الأميركية بين فئة تريد تعزيز الدولة المركزية ومساعدتها بالمال والسلاح وبين فئة تشكك بقدرة إسلام آباد على لعب دور في التصدي لمختلف شبكات «الإرهاب» الممتدة والعابرة للحدود.
المخاطر إذا واردة ويرجح أن تتصاعد وتائرها السلبية في حال امتدت المرحلة الانتقالية إلى فترة أطول من المتوقع. وطول المدة يجرجر «الفوضى» بسبب لجوء الأطراف الإقليمية إلى الانتظار وتأسيس قراءات تعتمد على قناعات وفرضيات ولا تمتلك وقائع دامغة ترجح الخيارات في ضوء حسابات عاقلة.
المرحلة الرمادية تشجع على المغامرة وتدفع الدول الإقليمية إلى المبالغة في استعراض قوتها حتى ترفع سعرها في عمليات التفاوض والبيع والشراء وتبادل الخدمات ودفع بدل للأتعاب. وهذا ما قد يؤدي إلى جرجرة «الشرق الأوسط الكبير» إلى فوضى ممتدة من شرقه إلى غربه. «طالبان» في باكستان أخذت تتمدد عسكريا باتجاه العاصمة إسلام آباد. إيران مضطربة في حسم خياراتها بين التفاوض مع الدول الكبرى تحت سقف حزمة «الإغراءات» و«الحوافز» أو الانكفاء إلى الداخل والانغلاق في دائرة العزلة الإقليمية. العراق عاد للدخول في وتيرة تصاعد العنف وانكشاف هشاشة الوضع الأمني. حكومة أقصى التطرف الإسرائيلي تبحث عن سياسة ملغومة تستهدف تفخيخ توجهات إدارة أميركية تريد العودة إلى لعب دور الوسيط وتعتمد قراءة تؤيد «حل الدولتين» والمبادرة العربية للسلام الشامل. فلسطين واقعة بين فكي كماشة الاحتلال والانقسام الداخلي واستمرار الخلاف على تشكيل حكومة وحدة وطنية. في مصر لا يزال التوتر يسيطر على العلاقات بين القاهرة وطهران على خلفية ضبط خلية حزب الله وطموح إيران لمد نفوذها إلى بوابة غزة.
كل هذه «الفوضى» الإقليمية في دائرة «الشرق الأوسط الكبير» طبيعية في إطارها السياسي لأنها تحصل دائما حين تكون دولة كبرى تمر في مرحلة انتقالية بين عهد اتسم بتخريب علاقاتها ومصالحها مع معظم دول العالم وعهد يريد تصحيح الصورة والمفاهيم في فترة زمنية تحتاج روية وتتخوف من المسارعة في اتخاذ خطوات حاسمة قد تكون ناقصة وتؤدي إلى التورط في مغامرات غير محسوبة وقراءات غير مدروسة.
«الفوضى» هي عنوان المرحلة الانتقالية التي تتصف دائما بالغموض في الرؤية وعدم وضوح الألوان. وبسبب اللون الرمادي الذي لايزال يطغى على سياسات إدارة أوباما وخصوصا في «الشرق الأوسط الكبير» يرجح أن ترتفع وتيرة العنف في العراق وتتمدد «طالبان» عسكريا في أفغانستان وخارج الحدود. والخوف هو أن تمتد المرحلة الانتقالية إلى فترة أطول من المتوقع ما قد يفتح شهية الدول الإقليمية نحو المبالغة في قراءة موقعها وتقدير دورها وقوتها الأمر الذي يوسع دائرة المخاطر بسبب طموح كل طرف إلى تحسين فرصه في التفاوض قبل أن تحسم واشنطن خياراتها النهائية للسنوات المقبلة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2423 - الجمعة 24 أبريل 2009م الموافق 28 ربيع الثاني 1430هـ