عودا على بدء... في قضية النهضة.
لفتتني مقولة أحد أبرز القيادات الخليجية حين وقف في جمع دعيت لحضوره فقال: «لقد بنينا نهضتنا وابن خلدون قدوتنا وها هو العمران قد انتشر»! ولولا الأدب لغادرت القاعة، لكنني كتمت صدمتي وضحكتي، فقد تذكرت قول الإمام أبي حنيفة حين دخل مجلسه رجل عليه مهابة فقبض رجليه، وحين تكلّم الرجل كلاما سخيفا قال: الآن يمكن لي أن أمد رجليّ مرة أخرى.
إذ ظن المسكين أن انتشار البناء والعمارات التي مازال 70 في المئة منها شاخصا للسماء خاويا من النماء، هو العمران، على رغم أن العمران بالمعنى الاجتماعي الحضاري أعمق من ذلك بكثير، إذ هو نموذج الحضارة في تجليه في الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والسياسية بما يكفل تأسيس التمدن القوي الذي يغدو له الصدارة على باقي النماذج الأخرى المعاصرة له على كل الجبهات.
ولكن الحقيقة هي أن العقل العربي بقي لعقود طويلة في أسر تصورات نظرية بالغة العمومية عن النهضة، وانفرد المفكرون والمصلحون بالحديث عن النهضة، في حين انشغل الخبراء في المجالات المختلفة بالعمل في مواجهة الهيمنة الغربية على العقل العلمي. ونظرا لأن الجدل حول العلوم الطبيعية يقل فيه البعد الحضاري ويغلب بعد التسابق إلى الأحدث من الاكتشافات والنظريات العلمية، فقد بقي الجدل «إيديولوجيا» بدرجة كبيرة في المجال العربي والإسلامي حول النهضة.
ويكاد المطالع لكتابات المفكرين العرب في القرن الماضي بطوله لا يجد حديثا عن نماذج النهضة غير العربية، فقد نظر الناس تحت أقدامهم ثم نظروا لأوروبا الاستعمارية بعد صدمة الإمبريالية، وكفى.
لذلك كان من الأهمية دراسة وفهم نماذج النهضة الأخرى في هذا العالم، وقد أدهشني أن قسما للعلوم السياسية في أحد أعرق الجامعات العربية ليس به أستاذ واحد يعرف العبرية (لغة العدو المركزي)، أو الصينية أو السواحيلية أو الإسبانية أو غيرها من اللغات التي تفتحنا على حضارات ونماذج تنمية بديلة.
والتوجه شرقا وجنوبا للبحث في نماذج متنوعة من التنمية والنهضة وتصورات للعلاقة بين السياسي والاقتصادي والدولي والقومي والدولة والمجتمع غائب على رغم أننا يمكن أن نستقي منها دروسا ونتعلم كيف نهضت بعض النماذج وتعثرت نماذج أخرى وتراوحت ثالثة بين هذا وذاك.
تأملت فوجدت هناك ثلاث نماذج إسلامية خارج عالم العرب هي ماليزيا وإيران وتركيا، وهناك نموذج أميركا اللاتينية البعيد الذي لا ذكر له البتة في كتابات العرب ولا المسلمين على رغم أهميته من الناحية التنموية وعلاقة الدين بالمجتمع والإيديولوجيا بالنهضة، والذي فشلت قمته الأولى العربية اللاتينية وتحسن الوضع في قمته الثانية مؤخرا في قطر.
وهناك نموذج جنوب إفريقيا، تلك القارة التي لم يفكر فيها العقل العربي إلا لماما، وإن فعل فالصحراء المغربية أو جنوب السودان هي حدود خياله الفكري والسياسي. وهناك بالطبع نموذج الصين الذي لا يمكن تجاهله في استعراض مقومات التجارب التنموية والرؤى النهضوية الكامنة وراءها بغض النظر عن تقديرنا لدرجة النجاح ومؤشراته.
ولعل البدء بالنظر للبناء الفكري يكون نقطة بداية جيدة، فلا يوجد نموذج للتنمية يمكن أن يستغني عن رؤية واضحة للهدف والغاية، ولا للمنطلق والإرث الحضاري، نجد ذلك في المنزع القومي الإيراني، والذي استوعبته إيديولوجية الثورة الإيرانية، ونجد الخط الراديكالي من خلال تبني التوجه اليساري المعادي للرأسمالية في أميركا اللاتينية في نماذج البرازيل وفنزويلا وبوليفيا وغيرها من دول القارة، مع إنتاجٍ لفكر يساري خاص بأميركا اللاتينية، من مدرسة التبعية إلى لاهوت التحرير؛ ونجده في التمسك بالشيوعية في الحالة الصينية التي مازالت تتمسك بمنظومتها الثورية على رغم التحول لاقتصاد السوق بهيمنة الدولة وإدارتها؛ ونجده في القيم الآسيوية التي حكمت الرؤية الماليزية ممزوجة بتصورات الإسلام الحضاري في الثلاثين عاما الماضية؛ ونجدها في الحس التركي القوي بالقوة الحضارية حتى لو استقر هذا الوعي على منصة العلمانية وتنازع معها على المجال العام.
وربما استبدلت جنوب إفريقيا الزخم الإيديولوجي بالقيم الديمقراطية نتيجة ظرف الفصل العنصري الذي حكمها فصار تكريس الديمقراطية هو الإيديولوجية المقابلة من دون غلبة إيديولوجية واضحة، وتراوح الخطاب الرسمي بين فكرة دولة الرفاهة تارة، والسعي لفتح السوق للاستثمار العالمي تارة أخرى، ثم التراجع نحو مزيد من المركزية لحماية الفقراء والحد من الفوارق بينهم وبين الأغنياء بعد خروج الرئيس مبيكي من السلطة واستعداد معارضيه للعودة لرؤية أكثر «اجتماعية»، لكن تبقى الديمقراطية هي القيمة الأعلى في دراسة الحالة الجنوب إفريقية.
العامل الثاني في المقارنة والمقابلة بين تلك النماذج هو وجود دور فاعل للقيادة، والقيادة ليست بالمعنى القبلي العشائري الذي اعتدناه في العالم العربي، عشيرة الدم أو عشيرة البعث أو عشيرة النخبة الحاكمة بمصالحها المتماسكة المتقاطعة. ففي الحالة الصينية كان تولي دينج شياو بينج 1978 للسلطة هو بداية تحوّل النظام السياسي المركزي لخيارات السوق الحر في المجال الاقتصادي والتركيز على التصدير مع استمرار قبضة الحزب الواحد على السلطة. وفي الحال الإيرانية تظل القيادة السياسية هي الرمز والمحرك لتوجهات النظام السياسي. والشيء نفسه في النموذج التركي، وفي الحالة اللاتينية وفي النموذج الجنوب إفريقي (مع اختلاف في درجة الكاريزما بين مانديلا ومن خلفوه). وبالطبع في العامل الحاسم للقيادة الماليزية ممثلة في محاضر محمد في نقل ماليزيا لمصاف النمور الآسيوية مع توازن عرقي محسوب يضمن السلام الاجتماعي والسياسي، وديمقراطية توافقية ذات سمت آسيوي من ناحية القيم.
البعد الثالث الذي يمكن أن نمد خيط المقارنة عبره بين النماذج المتعددة هو علاقة الدولة بالمجتمع، ففي كل التجارب هناك مجتمعٌ مدني قوي بشكل لافت، حتى في الحالة الصينية، ومع «صبغة دينية» في الحالة الإيرانية، و»قوة» في حالة جنوب إفريقيا نتيجة النضال لإسقاط نظام الفصل العنصري، وزخم غير عادي في الحالة اللاتينية، وذكاء وبقاء نادر في ظل مختلف الظروف في ارتباكات الحالة التركية خلال ثلاث محطات للحكم العسكري قطعت مسارها الديمقراطي الذي حرص على تكريسه أتاتورك بغض النظر عن علمانيته، وتنوع إثني في الحالة الماليزية. فبغض النظر عن طبيعة دور الدولة فإن المجتمع المدني بقي عنصرا مؤثرا في التغيير في كل النماذج، بما فيها الصين.
والخيط الأخير الذي قد يهم القارئ متابعته في تلك الحالات هو علاقة مشروع النهضة بالسياق الإقليمي والعالمي، فدور إيران الإقليمي حكم خياراتها، ودفعها لمصادمة النظام العالمي. واللاتين قرروا أن العالم ليس الغرب فانفتحوا على قارتهم وثقافتهم عبر الحدود القومية وصاروا المنصة الأولى لحركات مناهضة العولمة ونقد الرأسمالية والنموذج الغربي ويسعون بكل قوة لبناء الإقليم كوحدة نهضوية. وماليزيا تجنبت الصدام ولم تنغلق في الوقت ذاته وتناغمت مع إقليمها فصارت من النمور الآسيوية. والصين قررت أن تكون ندا للقوى الدولية الأخرى وأقامت علاقات متجاوزة للإقليم - تجارية واستثمارية (وخاصة في مجال صناعة النفط) مع كثير من دول العالم. وفي الحالة الإفريقية تتراوح رؤى القيادات السياسية من حقبة لأخرى، لكن لا خلاف على ضرورة الريادة والقيادة على الساحة الإفريقية والاندماج في الاقتصاد العالمي على رغم الحرص على فكرة دولة الرفاهة لأنها أداة تمكين الغالبية السوداء.
وفي الحالة التركية نجد المشهد المركب والفريد من توظيف الخارج لتغيير الداخل في قطاعات بعينها، والحفاظ على الداخل في صلابته في قطاعات أخرى، فالخارج الأوروبي بحلم الانضمام للاتحاد الأوروبي ساعد العدالة والتنمية على تكريس الديمقراطية والحريات وتقليص الهيمنة المطلقة للجيش، لكن هيمنة الجيش على الملف الكردي والعلاقات مع «إسرائيل» بقي كما هو في سعي لممارسة دور إقليمي قوي.
الشاهد في كل الحالات أن قضايا النهضة لم تعد شئونا فكرية تخضع للفقه الحضاري والنظر الفلسفي في العلاقة بين الإسلام والغرب وملفات التغريب والاستقلال الحضاري، بل صار الأمر يحتاج من العقل المسلم والعقل العربي شحذ أدوات فقه الأولويات ونظرية المصلحة والنظر لخريطة العالم بشكل مركب ولخيارات النهضة بشكل قطاعي، سواء من ناحية القطاعات المتنوعة والمركبة في الواقع المعاصر للساحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو للقطاعات التي ترتكز عليها تجربة النهضة بالأساس بتقديم مساحة على الأخرى، أو التخلي عن الاختيار وتقدّم رؤية التكامل والتوازي بين المسارات.
بقي البعدان اللذان لم تتناولهما أيٌّ من الدراسات التي في هذا الملف وهما قضيتان لا تتناولهما رؤى النهضة العربية والإسلامية: البعد العسكري وبعد تطوير ذاتي لقدرات النموذج في مجال العلوم والتكنولوجيا.
وللحديث بقية...
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2412 - الإثنين 13 أبريل 2009م الموافق 17 ربيع الثاني 1430هـ