مساء غد تنتهي مهلة الترشح إلى الانتخابات اللبنانية التي ستعقد دورتها في 7 يونيو/ حزيران المقبل. وقبل يوم من إقفال باب الترشيح بلغ عدد المتنافسين للفوز بـ 128 مقعدا أكثر من 401 ويرجح أن يرتفع العدد مساء غد إلى 512 مترشحا أي بمعدل 4 متنافسين على المقعد الواحد.
المعدل معقول في اعتبار أن قوى «8 و14 آذار» تخوض المعارك في كل الأقضية والمحافظات بينما هناك قوى محلية (عائلات، عشائر، زعامات تقليدية، أصحاب نفوذ متوارث) تحاول المشاركة مستفيدة من حاجة الأحزاب لقوتها التصويتية التي ترجح كفة هذه اللائحة على الأخرى.
قوة العائلات والعشائر والزعامات المحلية ستعلب دورها في تعديل التوازنات في إطار الأقضية (قانون العام 1960) بعد أن تراجع نفوذها في انتخابات 2005 التي اعتمدت الدائرة الموسعة نسبيا (محافظة أو نصف محافظة). واختلاف جغرافية الدوائر يشكل أهم تعديل طرأ على تنافس «8 و14 آذار» لكسب أكبر عدد من المقاعد.
إلى اختلاف جغرافية الدوائر هناك اختلاف التحالفات. ففي دورة 2005 تحالف السنة والشيعة والدروز في مناطقهم وتركت المقاعد المسيحية للتنافس بين تيار الجنرال ميشال عون وتيار «قرنة شهوان» ما أدى إلى إعادة خلط الأوراق بين المجموعات السياسية بعد الانتهاء من المعركة الانتخابية.
في دورة 2009 يبدو أن التحالف الثلاثي (سنة، وشيعة، ودروز) لن يعود إلى الساحة إلا بحدود مبادلات ثنائية قد تحصل بين نبيه بري ووليد جنبلاط في بعض الدوائر. وبسبب هذا الفرز السياسي المناطقي تبدو المعركة في هذه الدورة موزعة طائفيا ومذهبيا على مواقع صغيرة تلعب العائلات والعشائر المحلية دورها في ترجيح المعادلة إلى جهة 8 أوجهة 14 آذار.
الفرز السياسي المناطقي بين القطبين رسم من البداية خريطة المجلس النيابي. فالأحزاب أو التيارات الكبيرة المسيطرة على شوارعها وجماعاتها الأهلية (الطائفية والمذهبية) لا تعاني من مشكلة المنافسة لكونها تتحكم بأدوات اللعبة. حركة «أمل» المتحالفة مع حزب الله في الجنوب لا تعاني من قوة منافسة حتى لو تشكلت ضدها لوائح مدعومة من عائلات سياسية (آل الأسعد مثلا). وحزب الله المتحالف مع حركة «أمل» في بعلبك والهرمل لا يواجه قوة منافسة حتى لو تشكلت لوائح مضادة تعتمد على عائلات سياسية (آل حماده أو حيدر مثلا). فالقوة الحزبية الثنائية الشيعية تتكفل بكسر وزن التكتلات العائلية المنافسة في الدوائر التي يسيطر عليها الصوت الشيعي.
المعادلة الشيعية في دوائر الجنوب والبقاع يمكن سحبها على المعادلة السنية - الدرزية في بعض دوائر بيروت والجبل. فالتحالف الثنائي السني - الدرزي يتكفل بدوره في كسر التكتلات المنافسة من العائلات السياسية. إلا أن القانون يتغير في دوائر طرابلس وصيدا والشمال بسبب عدم وجود قوة تصويتية للدروز مقابل تجمعات مسيحية وعائلات سنية قادرة على تعديل التوازنات وترجيح لائحة على أخرى.
بسبب اختلاف تضاريس الجغرافيا البشرية اتجه تيار «المستقبل» إلى تشكيل تحالفات محلية أدخل بموجبها الكثير من العائلات السياسية العريقة في بيروت (آل سلام مثلا) وفي طرابلس (الميقاتي والصفدي وربما كرامي) حتى تنكسر حدة التجاذبات بين الزعامات المحلية والتيار السياسي السني الحديث في تكوينه وتشكله العام على المستوى الوطني.
لكل هذه الاعتبارات السياسية المعطوفة على نمو دور العائلات والعشائر تبدو نتائج الاقتراع في المناطق الشيعية والسنية والدرزية محسومة سلفا مع تعديلات نسبية لمصلحة الأطراف الأربعة (أمل، حزب الله، المستقبل، الحزب التقدمي الاشتراكي).
المشكلة إذا ستبقى كما كان أمر دورة 2005 في المناطق المسيحية لمجموعة اعتبارات أهمها وجود انقسامات بين تكتلات سياسية ثلاثة (القوات اللبنانية، حزب الكتائب، والتيار الوطني الحر) معطوفة على مراكز قوى محلية في الأقضية المارونية (آل طوق في بشري، آل فرنجية في زغرتا، آل حرب في البترون، آل الخازن في كسروان). فهذه الدوائر الانتخابية تشهد تجاذبات حادة بين 8 و14 آذار ولكنها أيضا تخضع للسلطة المحلية وموقع العائلات السياسية في تقرير معادلة التوازن.
المشكلة ليست هنا فقط بل هي ممتدة إلى المناطق السنية والشيعية والدرزية التي تحتوي دوائرها الانتخابية على مقاعد مسيحية. فهناك أكثر من سبعة مقاعد مسيحية في المناطق ذات الكثافة الشيعية. مقابل أكثر من سبعة مقاعد مسيحية في المناطق ذات الكثافة السنية - الدرزية.
هذه المقاعد المسيحية (14 مقعدا) في المناطق المسلمة شكلت على امتداد الأسابيع الماضية ساحة تنافس بين القوى المسيحية في 8 و14 آذار. فالجنرال عون طالب حليفه وحليف حليفه (حزب الله وأمل) بالتنازل عن تلك المقاعد لمصلحة تياره حتى يرجح كفة فريقه المسيحي في التكتلات البرلمانية. والقوات اللبنانية وحزب الكتائب والأحرار والكتلة الوطنية طالبت الحلفاء في «14 آذار» بالتنازل عن مقاعد المسيحيين لمصلحتها حتى تشكل قوة منافسة للجنرال في التوازنات النيابية.
معركة من يمثل المسيحي في الدوائر الواقعة في المناطق المسلمة شكلت نقطة تجاذب عنيفة داخل 8 و14 آذار وكادت تهدد القوتين بالتفكك والانهيار. وأدت المعركة الصامتة إلى تنازلات من جانب أمل وحزب الله والمستقبل والاشتراكي لمصلحة الفريق المسيحي المتحالف معهم في الجانب الآخر. فالحركة والحزب تنازلا عن ثلاثة مقاعد لمصلحة حليفهما الجنرال في «8 آذار». والمستقبل والاشتراكي تنازلا عن ثلاثة مقاعد لمصلحة الكتائب والأحرار والقوات في «14 آذار».
كل هذه التفصيلات في خريطة الانتخابات اللبنانية السابقة أو المقبلة توضح مسألة سياسية مهمة عن معنى «الديمقراطية» في المشرق العربي. فالديمقراطية في هذه البلدان مجموعة آليات متخلفة تعيد إنتاج المجالس النيابية على صورة العمران البشري. فالديمقراطية طائفية في المناطق الطائفية، ومذهبية في الساحات المذهبية، وقبلية أو عائلية في جغرافيا محددة أو تلك المحصورة بالصحاري أو المرتفعات الجبلية.
بلاد الأرز ليست بعيدة في أصلها وفصلها عن هذه الصورة السياسية. فهي حتى لو انقسمت إلى «8 و14 آذار» تبقى الآليات الطائفية والمذهبية والمناطقية والعائلية والعشائرية تلعب دورها في ترجيح موازين القوى لهذه الجهة السياسية أو تلك. أما الكلام عن «لبنان أولا» أو «المقاومة أولا» أو «الدولة أولا» أو غيرها من شعارات اجتماعية وإصلاحية لا تقدم أو تؤخر في معادلة التنافس المحكوم بحسابات ضيقة غير قادرة على الخروج من قيود ثقيلة وشديدة التخلف في حساسياتها ورؤيتها.
بسبب هذا التداخل والتشابك بين الديمقراطية (آلية الاختيار) والعمران البشري (انقسام الجماعات الأهلية) ترجح القراءات أن مستقبل «8 و14 آذار» أصبح عرضة للتفكك والانهيار بعد الانتهاء من معركة الانتخابات في 7 يونيو. وهذا الاحتمال ليس مستبعدا في بلاد الأرز لكون لبنان شهد في الكثير من محطاته التاريخية انقسامات سياسية وتجاذبات أهلية تلاشت مع الأيام ومن دون عنف أو انفعال بعد أن تغيرت المعادلات الإقليمية وتبدلت الفضاءات الدولية.
سابقا انقسم لبنان بين «الحلف» و«النهج» وتصارعت قواه على المراكز والمواقع وإدارات الدولة من العام 1962 إلى العام 1970 وتلاشى التجاذب الأهلي بمجرد فوز «الحلف» بالرئاسة الأولى (سليمان فرنجية الجد) وخسارة «النهج» معركة التمديد (التيار الإصلاحي الشهابي). وبعدها دخلت بلاد الأرز معركة وجود حين تطور الاستقطاب إلى درجة أهلية عليا وانجرفت الانقسامات السياسية إلى حروب الطوائف والمناطق والأقاليم.
ساحة لبنان لاتزال حتى الآن مكشوفة ومفتوحة والتنافس على المقاعد البرلمانية لن يقدم أو يؤخر في تصنيع خريطة المعادلة المحلية في اعتبار أن التوازن الداخلي لا يرتكز على توزع 128 مقعدا بل هو محكوم بالمتغيرات الدولية والإقليمية. فالمتحولات في النهاية هي الطرف الذي سيحدد طبيعة أشكال التحالفات وتوازناتها. فالأصل والفصل يبدأ وينتهي في العمران البشري ومحيطه.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2404 - الأحد 05 أبريل 2009م الموافق 09 ربيع الثاني 1430هـ