مازال صمت الدولة مستمرا إزاء دعوات الحوار المتكررة والملحّة التي تنطلق منذ أمد بعيد من عدة منابر وطنية مخلصة، بينما يزداد الوضع سخونة وانفلاتا وذهابا إلى المجهول، ولا بوادر بسيطرة النار ولا الحديد.
كل ما توقعه الناس خلال سنوات خلت بدأ يتحقق على أرض الواقع، فها هي الإطارات المشتعلة صارت «بوابة استقبال» للكثير من مناطق البحرين، بدلا عن تلك البوابات الجميلة التي ربما كان يصنعها حارقو الإطارات أنفسهم حين كان العقل والحكمة سيدا الموقف في مرحلة الانفراج السياسي، وها هي الأدخنة تتعالى في سماء القرى عوضا عن البخور والطيب في كل مناسبة حيوية تمر على البحرين، والمطاردات الأمنية تتوغل حتى في غرف النوم، وطلقات مسيل الدموع والمطاط والشوزن تلاحق الجاني والبريء، ولا أذن صاغية لمطالبات التهدئة التي بحّت بها أصوات العقلاء، حتى رجعنا إلى ما كنا نخشى الرجوع إليه، وبتنا نعيش التسعينيات بلحظاتها المرة مجددا.
يستغرب الحريصون على أمن هذا البلد العزيز إصرار الساسة على السكوت إزاء مبادرة الحوار الوطني التي يعوّل عليها الشعب البحريني كثيرا في تخليص الوطن من الغليان، وهو استغراب في محله، إذ إن المفاضلة العقلية تقول ببساطة إن سياسة الحوار أجدى من سياسة القوة. ذلك ما تداركته الإدارة الأميركية الجديدة هذه المرة في لعبة التوازنات، وأقرت بمبدئيته، لأن منطق القوة أثبت عجزه في قبال التطورات الإقليمية وتفاقم الأزمات الأمنية في المنطقة التي أصبحت ترافقها أزمات مالية مكلفة، من الطبيعي أنَّ تأزُّم الأوضاع يعرقل معالجتها، وبالتالي لا سبيل إلا للقبول بخيار الحوار.
توصيات لا تنسى في قمة «الدوحة»
صحيح أن العالم العربي انشغل بحفلات العراك والمصالحة في القمة العربية الأخيرة التي عقدت في الدوحة، بحثا منه عما يشغل به نفسه لأنه يئس من الحصول على أية فوائد مرجوة من هذه القمم، إلا أن الجزء الأهم الذي لم يسلط الضوء عليه في توصيات قادة الدول العربية المجتمعين في الدورة الحادية والعشرين لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة قبل أيام، هو تأكيد القادة العرب العزم على «متابعة الإصلاحات السياسية والاجتماعية في المجتمعات العربية بما يضمن تحقيق التكافل الاجتماعي والوئام الوطني والسلم الأهلي».
ربما الكلام لا يعدو كونه حديثا مستهلكا كما في توصيات القمم السابقة، لكن الفرق هذه المرة أننا وخصوصا في مملكة البحرين بحاجة ماسة إلى الاستفادة من تصريحات إيجابية كهذه، والضغط باتجاه تفعيلها من أجل وقف العنف والعنف المضاد الذي بدأ يستشري، ولا علامات تلوح في الأفق بتوقفه قريبا في ظل تجاهل دعوات الحوار الجدي.
«ندعو إلى تكثيف الحوار بين الثقافات والشعوب وإرساء ثقافة الانفتاح وقبول الآخر ودعم مبادئ التآخي والتسامح واحترام القيم الإنسانية التي تؤكد حقوق الإنسان وتعلي كرامته وتصون حريته». كلمات جذابة وجميلة تضمنتها توصيات القادة العرب أخيرا، إذا استطاعت مملكتنا العزيزة توظيفها بطريقة منطقية (غير معاكسة) فإن الحوار سيأخذ مكانه الصحيح بين أبناء البلد حكومة وشعبا، وسيؤتي ثماره. أما إذا أوغلت مملكتنا في تجاوز المبادرات الجادة والمخلصة فلا نرجو استقرارا أمنيا واقتصاديا يعكس المعادلة ويزيد من فرص الاستثمار ويوقف أخطار الأزمة المالية. هذا ما تقوله التجربة.
مبررات الخوف من الحوار
لن تجازف السلطة بالأمن وتضحي بالمال والعتاد وبأرواح الشرطة إلا إذا رأت في الحوار خطرا محدقا، أو وجدت مضاره أكثر من منافعه، فقد ترى السلطة أن الجلوس على طاولة الحوار مع المعارضة إسقاطا لهيبتها ونزولا إلى مستوى أقل من مستواها، كما قد ترى أن الحوار مع بعض الرموز الوطنية يقوّي شعبيتها الجماهيرية وهو ما لا ترضاه السلطة خوفا على توازنات الحكم، وقد تذهب أبعد من ذلك إلى أن الحل هو في استدراج كل المعارضين إلى السجون مجددا وحكم البلد بالنار والحديد، وهذا ما يستبعده عاقل.
كل المبررات السابقة لا مسوّغ عقلائي لها إذا عرفنا تركيبة المعارضة البحرينية وأهدافها المعلنة، التي تختلف تماما عن تركيبة وأهداف القوى والخلايا الإرهابية التي تتحذر منها دول العالم بما فيها البحرين. فلا أجمل من أن يخرج واحد من أبرز الرموز الوطنية ذات الجماهيرية الواسعة ليحرّم إراقة الدم والمال العامّ والخاص والأعراض، في ظل أوضاع متوترة وتجاهل قاسٍ لمطالباته بالحوار، ويختزل دوافع الانفلات الأمني في إطار عام وبسيط جدا «أبناء هذا الشعب لهم مطالب واقعية فعلية، وهم لا يطلبون من الحكومة القمر ولا المستحيل».
لن تلتفت الحكومة إلى هكذا خطاب طبعا إذا كانت ماضية في خطة انفعالية تتناقض في جوهرها مع توصيات قمة «الدوحة» الأخيرة، بينما ستبدأ التحرك حالا في «تكثيف الحوار... وإرساء ثقافة الانفتاح وقبول الآخر» بصورة واقعية بعيدا عن التصريحات الصحافية إذا كانت تريد أن تحفظ وجه البحرين ناصعا أمام الأمم. وهذا «العشم»
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 2403 - السبت 04 أبريل 2009م الموافق 08 ربيع الثاني 1430هـ