29 بندا كانت محصلة قمة «مجموعة العشرين» التي أنهت أعمالها في لندن بحضور قادة 20 دولة تمثل اقتصاداتها نحو 80 في المئة من الاقتصاد العالمي. «قمة العشرين» في لندن هي الثانية بعد الأولى التي عقدت في واشنطن واعتبرت تأسيسية وخطوة تحضيرية للشروع في إعادة تشكيل خريطة جديدة للمنظومة الدولية بعد أن واجه العالم أخطر أزمة نقدية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أهمية «قمة العشرين» لا تقتصر على تلك الإجراءات التي توافقت الدول المشاركة على اتخاذها لاحتواء تداعيات الأزمة ومنع انفلاشها وتدهورها. فالبنود التي صدرت في نهاية القمة حاولت توسيع دائرة الإجراءات لتشمل مختلف زوايا الأزمة حتى تكون على خط مواز يضبط هيكلية المؤسسات النقدية وصناديق التحوط والسرية المصرفية والملاذات الآمنة للتهرب الضريبي والمضاربات في الأسواق ومراقبة الأنشطة المالية والعقارات وحماية الآليات التي تضمن قنوات الصرف لمساعدة الدول النامية ومنع انزلاقها نحو الحروب الأهلية والتفكك الذاتي.
البنود مهمة لكونها محاولة دولية للإطلالة على أزمة طاولت مختلف اقتصادات العالم من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق. إلا أن الجديد في تلك الخطوات لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية وإنما أيضا يشتمل على جوانب سياسية توضح معالم طريق يتجه نحو الاعتراف بوجود قوى نامية تستطيع المشاركة في عمليات التصويب والتصحيح والمساهمة في ضخ الرساميل لإنعاش الاقتصادات المتدهورة وتعزيز موقع صندوق النقد الدولي وتطوير دوره كقوة مستقلة أو ضامنة تجسر العلاقات بين الدول.
الجانب الجديد في مشهد قمة لندن هو تلك الصورة غير المرئية. فالمسكوت عنه هو الأهم لأن المخفي يشكل الوجه الآخر لعالم متغير وبدأ يتشكل في الأفق البعيد. و«قمة العشرين» هي بداية اعتراف بوجود قوى نامية اقتصادية ومالية أخذت تصعد من الجنوب إلى الشمال. كذلك هي خطوة ميدانية تدل على استعداد دول من الشمال بالاتجاه نحو التلاقي مع دول من الجنوب. وبهذا المعنى المسكوت عنه في مشهد لندن تعتبر «قمة العشرين» نقطة وصل لمجموعة تقاطعات جمعت الشمال والجنوب والغرب والشرق في دائرة عنوانها المشاركة في معالجة أزمة دولية ولكنها تتضمن سلسلة تفصيلات ترمز إلى وجود مجموعة أقطاب أخذت تتعادل في سياسة تصنيع هيئة «النظام الدولي الجديد».
«قمة العشرين» التي ولدت تحت ضغط أخطر أزمة نقدية في العالم يرجح أن تكون بداية خطوة في ترسيم خريطة طريق لموازين قوى نامية وصاعدة أخذت تتشكل في الجغرافيا البشرية والاقتصادية والمالية. وبهذا المعنى الرمزي تختلف القمة عن كل الهيئات الدولية التي تمظهرت صورها في العقود الأربعة الأخيرة.
هناك الكثير من المنظمات والهياكل والإطارات لعبت دورها في تقرير السياسات الاقتصادية والنقدية في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين ولكنها كلها كانت محكومة بمصالح محددة تتصل بالطاقة أو المواد الأولية (الثروات الطبيعية) أو التجارة الدولية أو التحكم بآليات الإنفاق والمساعدة. ومعظم تلك الهيئات كانت مشطورة إلى أقاليم جغرافية أو وظيفية تحاول حماية مصالحها أو ضمان استقرارها سواء على مستوى إنتاج الطاقة أو على مستوى إدارة حركة الرساميل والتحكم بقنوات أنشطتها الاقتصادية أو التنموية.
وظيفة تلك الإطارات والهياكل والمنظمات الاقتصادية كانت محشورة في قطاع محدد (مصارف، نفط، مواد أولية، تجارة، وغيرها من الأنشطة) أو محصورة جغرافيا في أقاليم متقاربة سياسيا أو متجاورة حدوديا. فهناك الكثير من الهيئات الآسيوية والعربية والإفريقية واللاتينية والأوروبية والأميركية تعمل في إطار تكتلات إقليمية أو في دائرة إنتاج أو تصدير مادة حيوية معينة أو طاقة تلعب دورها الاستراتيجي في التحكم بالاقتصاد العالمي.
«قمة العشرين» تختلف في وظائفها وجغرافيتها عن كل تلك المؤسسات التي لاتزال تعمل وتنشط على درجات غير متساوية في إدارة لعبة الاقتصاد الدولية. فالقمة هذه متعددة في تمثيلها الجغرافي ومتنوعة في أنظمتها ومتوسعة في أنشطتها ووظائفها. وهذا الأمر يعتبر بداية مؤشر على وجود اعتراف من جانب الدول الكبرى بأهمية مواقع قوى أخذت تنمو وتلعب دورها الخاص في التأثير على توازن الاقتصادات الدولية ما استدعى طلب مشاركتها ومساعدتها في المساهمة لمعالجة تداعيات أزمة ممتدة زمنيا ومنفلشة جغرافيا.
خطوة دخول دول لاتينية وإفريقية وعربية وآسيوية في مشهد الصورة الجامعة في قمة لندن تعتبر عمليا بداية اعتراف بوجود ظاهرة تعدد الأقطاب في ميدان الاقتصاد العالمي. فالخطوة إشارة تظهر الاستعداد لكسر نمطية في العلاقات الدولية وتكشف عن بدء نمو وجهة نظر تدفع نحو كسر احتكار «الشمال» باتجاه شراكة متعددة الأقطاب تجمع اختلافات الشمال والجنوب والغرب والشرق على قاعدة المصالح وتوازن المسئولية في احتواء كارثة يمكن لها أن تزعزع الاستقرار العالمي في حال جرى التعامل معها في السياقات السابقة.
العالم لاشك بدأ يتغير ليس في الأشكال والألوان فقط وإنما في التوازنات وما تتضمنه من مراكز قوى أخذت تلعب دورها في تعديل زوايا الصورة والمشهد الدولي للاقتصاد. و»قمة العشرين» في واشنطن ولندن وبعدها في طوكيو هي خطوة سياسية في إطار نقدي تشكل نظريا إشارة باتجاه تجاوز هيئات اقتصادية ذات بعد وظيفي محدد أو ذات طبيعة إقليمية محكومة بالجغرافيا والحدود الجوارية. فالقمة هذه دولية في معنى الشراكة وخطوة انتقالية من عصر احتكار القوة إلى طور يعترف بوجود قوى أخرى تمتلك إمكانات قادرة على المساهمة في صوغ الحلول للأزمات المشتركة. وكلام المستشارة الألمانية أنجيلا مركل عن أن القمة «توصلت إلى تسوية تاريخية لأزمة استثنائية» له دلالة تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة. فالتسوية تعني الكثير من الإشارات التي ترمز إلى متغيرات بدأت تضغط نحو الانتقال من عالم «قطب واحد» يعتمد على الاحتكار والتفرد إلى عالم أخذت تتشكل في أفقه البعيد خريطة دولية تعكس توازنات متعددة ومتنوعة وموزعة على جغرافيات متباعدة.
التسوية هذه دفعت الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى القول صراحة «إننا حصلنا على أكثر ما توقعنا». وأكثر ما توقعنا تكشف عن بدء الاستعداد لتجاوز نمطية مكررة في صورة المشهد الاقتصادي الدولي. فالصورة لم تعد مكسورة ومحصورة في دول الشمال سواء على مستوى الأسواق القارية أو على مستوى التكتلات الاحتكارية (مجموعة الدول الثماني مثلا). والقوى التي كانت مهمشة عن المشهد الاقتصادي الدولي أو تلك التي كانت تعتبر هامشية أو متخلفة عن قاطرة التاريخ أصبحت منذ الإعلان عن تشكيل «مجموعة العشرين» شريكة وفاعلة في إدارة اللعبة ما أعطاها فرصة للمساهمة في ترتيب إجراءات عملية وميدانية لاحتواء أزمة هزت الكثير من الأسس والقناعات والخيارات. واعتراف «مجموعة الدول الصناعية الثمانية» بوجود شريك آخر في إطار التوازنات الدولية يطرح ذاك السؤال عن وظيفة هذا التكتل الاحتكاري الذي استنفد أغراضه السياسية بعد تفكك المعسكر الاشتراكي وانهيار الاتحاد السوفياتي.
العالم كما يبدو بات بحاجة الآن إلى هيئات موسعة تتجاوز تلك الإطارات المحصورة في دوائر جغرافية أو إقليمية أو قطاعية محددة من دون أن يعني الأمر تجاوزها أو إلغاء وظائفها. فالعالم حتى يستطيع التكيف مع المتغيرات واستيعاب التحديات لابد له من ابتكار آليات وهيئات تتجانس مع طبيعة المتغيرات والتعديلات التي طرأت على الخريطة الاقتصادية. وهذا الأمر بدأت خطوطه العريضة تظهر في مشهد الصورة منذ انفجار الأزمة النقدية الكبرى في 14 سبتمبر/ أيلول 2008.
29 بندا كانت محصلة قمة «مجموعة العشرين» النظرية مرفقة بقوة دفع عملية بلغ مجموع موازنتها الموافقة على ضح أكثر من تريليون دولار لتنشيط الاقتصاد العالمي. وهذه الخطوة المالية تتجاوز في إشاراتها الإطار النقدي للأزمة لأنها في أفقها البعيد ترمز إلى بدء تشكل مراكز قوى جديدة يمكن أن تلعب دور الشريك في عالم أخذ يتغير ولا بد أن تدخل في إطار هيكل الصورة المغايرة في أشكالها وألوانها عن ذاك المشهد النمطي والاحتكاري الذي تجاوزه الزمن.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2402 - الجمعة 03 أبريل 2009م الموافق 07 ربيع الثاني 1430هـ