يؤكد الكثير من الباحثين والكتاب والمفكرين العرب على أن الدول العربية بعد حصولها على استقلالها من الاستعمار المباشر في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم قد عمدت إلى تهميش المجتمع وإقصائه وتضخيم جهاز الدولة، وانتفخت أجهزة المراقبة لديها بكيفية شلت المبادرات المستقلة والحرة، وقدمت نفسها كأنها الضامنة للحقوق والمصالح العامة، والمدافعة عن «كرامة المواطن» دون الإقرار الفعلي له بصفة المواطنة - والحامية لصحته وأولاده ومستقبله، والمحاربة للعدو الذي يحتل أرضه.
إلا أنه منذ أواسط الثمانينيات إلى الآن اضطرت هذه الدولة إلى المراجعة القسرية لبعض التزاماتها، ذلك أنه مع ثقل المديونية الداخلية والخارجية وفشل النماذج التنموية السابقة، وسقوط الشعارات التعبوية (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) التي تمكنت من الاستمرار لبعض الوقت، وعرقلة أي جهد توحيدي أو حتى تعاوني عربي عربي.
تطلب الدولة الآن من مواطنيها ألا يعولوا عليها في كل شيء، وأحيانا حتى على صعيد الأمن الشخصي والجماعي، تطالب المواطن بدفع كل ضرائبه على أن يتكفل هو بصحته وبنقله وبسكنه وبتعليم أبنائه وبتشغيلهم، ونقص الموارد، وتضخم القطاع العام وانعدام مردوديته.
ولأن هذه الدولة تضخمت على حساب المجتمع فإنها عملت طيلة أكثر من أربعة عقود على التشويش على أشكال التنظيم المحلية وأنماط التضامن والتعاضد والصيغ التعاونية المختلفة التي عرفتها المجتمعات عبر تاريخها، خوفا من نموها وتحولها إلى سلطات قد تفرز بؤر اعتراض أو تململ ممكن. وحاصرت بموازاة ذلك التنظيمات السياسية ومنعتها أو دجنتها، (وتدخل الجهاز الحكومي - وبخاصة لدى الدولة العربية الشمولية في كل مفاصل المجتمع «كل شاردة وواردة») وحدت من نموها وانتشارها لتحتل هي كل المجال العمومي، وتفرض الرأي الوحيد الأوحد وأفكار الزعيم القائد الرمز المهيب والملهم، والإيديولوجيا الوحيدة... هذا في الوقت الذي لا تكف فيه هذه الدولة عن الضجيج والتبجح المستمر عبر وسائل الإعلام المحتكرة لديها بالديمقراطية النابعة من سلطة الشعب وبالتعددية وحرية الرأي والتنظيم.
في سياق هذا الجو الاحتقاني والذي يحاصر الإنسان في حركاته وسكناته والذي يقتل فيه روح الابتكار والإبداع والتطور، وأي مساع للتنمية والديمقراطية اندفعت عناصر من النخبة السياسية والثقافية إلى إطلاق مبادرات ذات أهداف مدنية وإصلاحية، وذلك بتأسيس جمعيات ومنظمات تتنشط في المجالات الاجتماعية والثقافية والإنسانية التي أسقطتها الدولة من حساباتها أو كانت تخشاها وتحسب لها ألف حساب.
في دراسة قيمة عن الإصلاح في العالم العربي يبين برهان غليون أسباب فشل الجهود الإصلاحية العربية ويلخصها بجملة أسباب منها استفادة النظم العربية من الموقف السلبي التاريخي للرأي العام من السياسات الأميركية في المنطقة، ومن الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة المدنية في العراق، من أجل نزع الصدقية من الإصلاح الأميركي الأوروبي، ونجحت بالفعل في تعبئة هذا الرأي العام ضد ما أسمته الإصلاح المفروض من الخارج. وقدم لها تدهور الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي والإنساني في العراق خلال السنوات الماضية نموذجا سلبيا لا يقدر بثمن لإظهار مخاطر التسليم بالتدخل الأجنبي والإنصات للنصائح الغربية.
ويرى وجود عوامل أخرى في إخفاق الإصلاح العربي منها:
- إن الانقسام الذي غذته وعملت عليه النظم القائمة حول مسائل الإصلاح قد أدخل الفكر والسياسة الإصلاحيين العربيين في حالة تخبط عميق وأجهض جميع جهود العمل على دفع المجتمعات العربية إلى تبني مشروع الإصلاح والتضحية من أجله.
- لقد أدركت النخب الحاكمة أن تطبيق برنامج الإصلاح المطلوب يعني إلغاء وجودها نفسه لصالح صعود نخبة جديدة، وبالتالي على أنه عملية انتحارية ووقفت بجميع الوسائل ضد برنامج الإصلاح الذي يشكل بالأحرى برنامج انقلاب على النظم المركزية واستبدالها بنظم تعددية.
- إن الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه التحالف الغربي المشار إليه آنفا لا يلغي أيضا مسئولية قوى التغيير المحلية، وتكمن هذه المسئولية في العجز الذي أظهرته هذه القوى عن إدراك الرهانات الكبرى التي يرتبط بها الإصلاح والتي لم تخف على الأوليغارشيات الحاكمة.
فقد اعتقدت هذه القوى أنها تستطيع إذا اقتنعت النخب الحاكمة ببرنامج سلمي للإصلاح، أن تغير موازين القوى لا يتضمن تغيير النظم الحاكمة. والواقع أن دعوة الإصلاح العربية قامت منذ البداية على سوء تفاهم كبير بل ربما على خداع الذات شاركت فيه القوى المحلية الداعية للإصلاح كما شارك فيه التحالف الغربي أيضا. فقد نظرت هذه القوى إلى الإصلاح على أنه مقدمة للتغيير أو محاولة لتغيير النظم من الداخل وتقريبا بالتفاهم معها والاتفاق على برنامج عمل انتقالي يسمح بتجاوز الوضع الراهن والدخول في نظم تعددية حقيقية في مستقبل ما.
إن الحالة العامة للأزمة في العالم العربي بجميع جوانبها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية تقتضي أن يتم التحرك الفعال والحثيث للتغلب على هذه الحالة الأزموية، فلا يمكن لقوة وحيدة أن تحقق الإصلاح وإنما هو يتطلب تضافر جهود جميع قوى المجتمع للدخول في المعترك الإصلاحي والاستمرار بنجاح إلى النهايات المنطقية.
كما يجب التذكير بأن القوى المحلية مهما كانت قوتها لا تستطيع إنجاز الإصلاح بمفردها - لأسباب عدة - من دون مساعدة شخصيات ومنظمات وهيئات حقوقية إنسانية دولية كما يؤكد على ذلك المفكر برهان غليون، إذ يقترح لجنة دولية وسيطة مهمتها تسهيل فتح الحوار مع الأطراف المتنابذة وتذليل العقبات التي تحول دون تواصل هذه الأطراف، وإبراز إمكانية المراهنة على الحلول السياسية المتفاوض عليها وجدواها.
*كاتب وباحث من سورية، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2402 - الجمعة 03 أبريل 2009م الموافق 07 ربيع الثاني 1430هـ