اليوم يبدأ الكنيست الإسرائيلي جلساته النيابية لوضع اللمسات الأخيرة تمهيدا لإعطاء حكومة بنيامين نتنياهو الثقة.
المفاجأة في العملية السياسية تركزت على موقف حزب «كاديما» وامتناع وزيرة الخارجية تسيبي ليفني عن التحالف مع تكتل «الليكود». موقف ليفني قد يكون لأسباب شخصية وخاصة إلا أن دوافعه السياسية ليست مستبعدة إذ اشترطت على نتنياهو مجموعة نقاط كان من الصعب عليه تقبلها خوفا من انهيار معسكر أقصى التطرف. وأهمية موقف ليفني لا يكمن في مبادئ السياسة باعتبار أن الاختلافات بين الأحزاب الإسرائيلية هامشية وتقتصر على الجزئيات وتتوافق على الكليات. فالاختلاف السياسي ليس المهم في دولة قائمة على الاحتلال وإنما في التكوين الثقافي الذي تتشكل منه تلك الخريطة الديموغرافية لـ«إسرائيل».
«كاديما» أساسا هو انشقاق عن الليكود. والانشقاق قاده ارييل شارون بعد أن اصطدم بنتنياهو بسبب رفض الأخير الموافقة على خطة الانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة. وفكرة «كاديما» أو «قدما إلى الأمام» صنعها شارون حين وجد فيها ذاك الملاذ الآمن لتجميع مختلف القوى السياسية الناقمة على أحزابها لتجتمع في حزب جديد وبديل. فشارون آنذاك قرر تكسير البناء التنظيمي وإعادة تشكيل هيئة جامعة تنضم إليها كل القوى من روافد إيديولوجية مختلفة. ولهذا السبب انضوى في «كاديما» الكثير من الرموز والقادة والشخصيات من أحزاب متنوعة من ضمنها أعضاء في حزب «العمل» وزعيمه التاريخي شمعون بيريز.
المحاولة التي قادها شارون لم تتبلور نهائيا بعد أن أصيب بفالج دماغي وشلل دائم وغياب عن الوعي ما أعطى فرصة لإيهود أولمرت وليفني بالصعود المؤقت بعد أن غاب الرأس ودخل غرفة العناية الدائمة. وبسبب هذه المفارقة فشل «كاديما» في تطوير أطروحاته في ظل غياب المؤسس ما أعطى فرصة لعودة نتنياهو إلى الشاشة السياسية مستفيدا من فشل «كاديما» وعجزه عن تشكيل البديل التاريخي لخريطة الأحزاب.
المفاجأة الثانية في العملية السياسية هي موافقة حزب «العمل» على التحالف مع أقصى التطرف وهو الطرف المحسوب تقليديا في معسكر اليسار. ودخول وزير الدفاع إيهود باراك إلى جانب أربعة من قادته إلى وزارة يرأسها نتنياهو تعتبر فضيحة سياسية لقوة حزبية لعبت دورا مفصليا في تاريخ الدولة العبرية. فهذا الحزب المؤسس تراجع خطوة بعد أخرى منذ حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 لينتهي أخيرا في المرتبة الرابعة من حيث تمثيله النيابي في الكنيست. وتراجع «العمل» لا يعني الشيء الكثير سياسيا في دولة «إسرائيل» إلا أنه ثقافيا يعطي فكرة موجزة عن تلك التحولات الديموغرافية التي طرأت على تكوين الدولة ما ساهم في تشكيل متغيرات في هوية الكيان وإيديولوجيته الدينية الصاعدة.
مفاجأة امتناع «كاديما» المنشق من أصول «يمينية» بالدخول في حكومة «الليكود» ومفاجأة قبول «العمل» المولود من أصول «يسارية» الاحتماء بمظلة أقصى التطرف تعكسان في النهاية سمة دولة طرأت على هويتها الايديولوجية عناصر ثقافية أخذت تدفع العملية السياسية باتجاه احتمال إعادة تأسيس «الكيان العبري» من جديد.
قواعد التأسيس المحتملة ليست مفتعلة ولا تحتاج إلى مبالغات لتأكيد حصولها في السنوات المقبلة. فالتحولات السكانية التي طرأت على صورة الجماعات الأهلية التي تتألف منها «الدولة» أدت إلى توليد هوية ايديولوجية مخالفة للأصول الدينية العلمانية التي تشكل منها وعي الجيل المؤسس.
الكيان الإسرائيلي الآن (2009) يختلف عن ذاك الذي أعلن عن نفسه يوم نكبة فلسطين في العام 1948. والاختلاف ناجم عن تحولات بنيوية سكانية أخذت تعيد تأسيس هوية الدولة بناء على معايير ايديولوجية لا تتجانس مع طبيعة الجيل المؤسس وأصوله العرقية والثقافية ومناخاته الايديولوجية الأوروبية التي جلبها معه في عشرينات وثلاثينات وأربعينات القرن الماضي إلى «أرض الميعاد».
فكرة «العودة» آنذاك خلطت بين الديني والقومي وبين العرقي والعلماني وبين اللاهوتي والمدني ما أعطى ذاك اللون السياسي الملتبس لطبيعة الهجرة تحت سقف الانتداب البريطاني. بعد التأسيس (النكبة) أصبحت مسألة «العودة» محكومة بمعايير ايديولوجية دينية وطموحات للحصول على مكاسب وأرض وضمانات وفرص للعمل بذريعة الانتماء إلى أصول «يهودية».
الاختلاف بين المرحلتين جاء نتاج دوافع مغايرة. فالجيل الأول هاجر لأسباب سياسية تعتمد على ذرائع دينية (الوعد الإلهي) ثم أخذت الأسباب تتعدل حتى أصبحت الهجرة دينية تعتمد على مبررات سياسية. وبسبب نمو الديني على حساب السياسي تشكلت في الدولة مراكز قوى أخذت تتجاذب الأطراف بين تيار صاعد يطالب باعتماد القوانين اليهودية (التشريعات التلمودية) وتيار يتراجع أخذ يتخلى رويدا عن قوانينه المدنية لمصلحة قوة ايديولوجية تؤمن بصفاء الهوية وترفض التطبع مع الآخر المختلف في دينه وثقافته وسلوكه اليومي.
حكومة نتنياهو التي يرجح أن تأخذ ثقة الكنيست تشكل سياسيا محطة انتقالية بين تاريخ وآخر. فهذه الدولة التي تأسست بالقوة على أرض السكان الأصليين عرفت منذ البداية الكثير من الانقسامات العمودية بين مجموعاتها الأهلية. فهناك التيار الاشكنازي، والتيار السفاردي، وهناك الحاسيديم (يهود أغنياء). وهذا الانقسام الثقافي - اللوني بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين طرأت عليه تحولات وأخذ يتبدل باتجاه استقطاب ايديولوجي بين علماني قومي وديني قومي، وبين علماني ديني وديني عنصري.
الانقسامات الحالية تختلف في تكوينها الديموغرافي - الثقافي عن السابقة باعتبار أن القوة الصاعدة في «إسرائيل» أخذت تميل نحو ايديولوجيا التيار الحريدي (الحاريديم) الذي يطالب بالانغلاق الديني والانكفاء إلى هوية أصولية لا تعترف بالآخر حتى لو كان يهوديا. فالحريدي الديني ضد الصهيوني «العلماني» بذريعة أنه يتبنى قوانين مدنية ويعتمد على هياكل أوروبية في تأسيس المستوطنات الزراعية (الكيبوتزات) أو التجمعات العمالية (الهستدروت).
برأي القوى الحريدية أن هذه الهيئات «المدنية» تفتح الباب للآخر بالدخول إليها والاستفادة منها لاختراق مؤسسات الدولة لذلك يطالب ويضغط باتجاه إعادة تعريف «اليهودي» وتحديد شروط الهوية حتى يتجانس الكيان ويتوازن الدين مع السياسة.
«كاديما» الآن أصبح خارج اللعبة السياسية. والمجموعات العربية الممثلة في الكنيست هي أصلا زيادة عدد وتعتبر تقليديا خارج معادلة الدولة. أما القوى الأخرى التي تضم «العمل» و«الليكود» و«إسرائيل بيتنا» و«شاس» فهي تتشكل من مجموعات أخذت تتقارب لتعيد ترتيب هيكل الدولة الذي بدأت هويته بالتبدل بسبب نمو قوة ايديولوجية مغايرة في ثقافتها وأصولها الديموغرافية.
صورة «إسرائيل» بدءا من اليوم الذي تأخذ حكومة نتنياهو ثقة الكنيست الدستورية وتقسم اليمين ستدخل في طور إعادة تعريف الهوية (يهودية الدولة) ليلعب التيار الحريدي (الديني الأصولي) دور الناظم الجديد للعلاقات الأهلية سواء على مستوى الديني القومي (المفدال) أو الديني الارثوذكسي (يهودوت هاتوراه) أو الديني العنصري (ناطوري كارتا) أو اليهودي الشرقي (شاس). فكل هذه المروحة من الألون تجتمع على مركز يوحدها وهو المزيد من الانغلاق والكثير من الانطواء على الذات. والمرحلة الانتقالية التي تمرّ بها «إسرائيل» من محطة العلمانية المنغلقة إلى المحطة الدينية المنغلقة تعطي صورة عن متغيرات ثقافية معطوفة على تحولات ديموغرافية طرأت على البنية السكانية للدولة. وهذه المرحلة الحريدية (الانكفاء إلى الغيتو) قد تكون طويلة زمنيا أو قصيرة إلا أنها تشكل خطوة ارتدادية عن الطبعة الصهيونية الأولى، ويرجح أن تبدأ الطبعة الثانية بزعزعة الكثير من المسلّمات في فلسطين والمنطقة في حال تواصلت فكرة صفاء «يهودية الكيان» بالنمو السياسي والصعود للسيطرة على الدولة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2399 - الثلثاء 31 مارس 2009م الموافق 04 ربيع الثاني 1430هـ