الاعتراف مطلب ملح وحيوي كما عرفنا من جدلية هيغل وسياسات الاعتراف لدى تشارلز تايلور. ونعرف، كذلك، أن هناك الكثير من الصراعات التي خاضتها الجماعات من أجل كسب الاعتراف. إلا أن الحاصل أن الجماعة التي تنخرط في هذا الصراع، أو تلك التي كسبت هذا الاعتراف، عادة ما تكون معرّضة لأن تتحوّل إلى جماعة منعزلة ومنغلقة على ذاتها وقمعية بحيث تتعامل بحساسية شديدة تجاه انتماء أفرادها فتفرض عليهم شكلا صارما من الالتزام بقيم الجماعة ومعتقداتها وطقوسها ومصالحها. وبهذه الطريقة سيكون على هؤلاء أن ينمُّوا شعورا قويا ومطلقا بالانتماء الأحادي لجماعتهم. وعادة ما ينطوي هذا النوع من الشعور على إدراك لمسافة البعد والاختلاف عن الجماعات الأخرى. وهو ما يغذي عدوانية الجماعة وحالة التنافر بينها وبين تلك الجماعات؛ إذ «من الممكن أن يقال لنا، فجأة، إننا لسنا راونديين فقط، ولكننا بالتحديد من طائفة «الهوتو» (ومعنى ذلك أننا «نكره أبناء طائفة التوتسي»)، أو إننا لسنا في الواقع مجرد يوغسلافيين، وإنما نحن في الحقيقة «صربيون» (وهذا معناه أننا لا نحب المسلمين قطعيا) (الهوية والعنف، ص18)، والأمر كذلك حين يقال لنا بأننا لسنا عراقيين فحسب، بل سنة أو شيعة، عربا أو أكرادا أو تركمان، أو أن يقال لنا بأننا لسنا بحرينيين فحسب، بل سنة أو شيعة، عربا أو هولة أو عجم، وهكذا فيما يتعلق بالمسلمين والأقباط في مصر، والعرب والأمازيغ في مجتمعات المغرب العربي، والفرس والآذاريين والأكراد والعرب والتركمان والبلوش في إيران، والبنجابيين والبلوش في باكستان، والهندوس والمسلمين في الهند... إلخ.
قد يغذّي الشعور المطلق بالانتماء الأحادي إلى إحدى الجماعات مثل هذا النوع من التنافر والعدوانية بين الجماعات، إلا أن هذه العدوانية لن تكون من نصيب الجماعات الأخرى فحسب، بل إن أبناء الجماعة أنفسهم قد يكونون عرضة لهذا النوع من العدوان الذي قد يستهدفهم في حال اتهموا بالخيانة والخروج على الالتزام الصارم الذي تفرضه عليهم الجماعة. وهنا ستنخرط الجماعة في تنازع مزدوج: خارجي مع الجماعات الأخرى طلبا للاعتراف أو سعيا وراء الهيمنة، وداخلي مع أبناء الجماعة الذين يعترضون على إنكار فرديتهم وطمس هوياتهم المتعددة واختزالهم في انتمائهم الأحادي إلى جماعتهم فقط. الأمر الذي يعني أن معركة الاعتراف لن تنتهي حتى بعد أن تكسب الجماعة الاعتراف بها من قبل الدولة أو الجماعات الأخرى؛ لأنه سيكون على أفراد هذه الجماعة أن ينخرطوا في صراع جديد من أجل كسب الاعتراف بهم كأفراد قبل كل شيء، وكأفراد لهم الحرية الكاملة في اختيار الجماعة التي يريدون الانتماء أو عدم الانتماء إليها، أو يريدون الانتماء إليها بمرونة تسمح بتعدد الهويات والانتماءات.
في سياسات الاعتراف لدى تايلور، كان على الجماعات أن تخوض الصراع لتنتزع الاعتراف بها من قبل الدولة والجماعات الأخرى، في حين أن على الأفراد، هنا، أن يخوضوا الصراع من أجل انتزاع الاعتراف بهم كأفراد من قبل الدولة وجماعتهم والجماعات الأخرى. الأمر الذي يجعل صراع الاعتراف الأخير أكثر صعوبة وتعقيدا من سياسات الاعتراف الجماعي. فإذا كان على الجماعة أن تتواجه مع لاعبين اثنين هما الدولة والجماعات الأخرى، فإن على الأفراد أن يتواجهوا مع ثلاثة لاعبين غِلاظ شِدَاد هم جماعتهم والدولة والجماعات الأخرى. وإذا كان الصراع الأول سيخاض بقوة الجماعة المجيّشة وزخمها، فإن على الأفراد أن ينخرطوا في هذا الصراع بقوتهم الذاتية مجردين من زخم التجييش الجماعي وعنفوانه.
هل سياسات الاعتراف لدى تايلور هي السبب في هذه المعضلة؟ تحدثنا في مقالات سابقة عن هذه القضية، وقلنا إن الاعتراف الرسمي قد يتسبب في هذا النوع من المعضلات أمام الفرد والجماعة والدولة، إلا أن لدى تايلور مفهوما آخر لا يجوز التغاضي عنه في سياق مناقشة سياسات الاعتراف، ذلك هو مفهوم الأصالة Authenticity. وتايلور يؤسس مطلب الاعتراف على فكرة الأصالة لدى الشخص والجماعة سواء بسواء. وبحسب تايلور، فإن هذه الفكرة تعود إلى هردر وروسو، ويقصد بها «الطريقة الأصيلة لكي أكون إنسانا»، وهي طريقة الحياة التي يختارها كل شخص بإرادة داخلية. وبتعبير تايلور نفسه، فإن «هناك طريقة معينة لكي أكون إنسانا، تلك هي طريقتي أنا. فأنا مدعو لأن أعيش حياتي بهذه الطريقة، وليس بمحاكاة حياة إنسان آخر»، أو بالانصياع لضغوط خارجية. وحين يعيش المرء كما يريد هو وبإرادته الداخلية، فإن طريقة الحياة لن تكون «مشتقة اجتماعيا، بل متولدة بصورة داخلية من الفرد نفسه». وعلى هذا فإن سياسات الاعتراف المطلوبة هنا ينبغي أن تأخذ فكرة الأصالة بعين الاعتبار، بحيث لا يتركز مطلب الاعتراف على الاعتراف بانتماء المرء الثقافي والجماعي بالدرجة الأولى، بل على الاعتراف بالمرء كما يريد هو أن يكون لا كما تريد جماعته أو دولته أو أية جهة أخرى. كما أن الاعتراف بجماعة ما ينبغي أن يكون اعترافا بالجماعة كما تريد وتقرّر هي لا كما تقرّر الدولة أو الجماعة الغالبة والمهيمنة.
إذا كان الانتماء إلى الجماعة يعني التطابق بين أفرادها بحيث يكون كل واحد منهم نسخة طبق الأصل من الآخر، فإن هذا التطابق ليس أكثر من «محاكاة حياة إنسان آخر»، وهذا النوع من التطابق يقع على النقيض من فكرة الأصالة لدى تايلور، والتي تطالب بأن يحيا كل فرد بطريقته الخاصة والأصيلة النابعة من إرادته الداخلية. فالإرادات قد تتشابه، إلا أنها لا تتطابق، فهي مختلفة بالضرورة، وهذا الاختلاف هو الذي يجعل كل فرد يتمتع بهوية متفردة بصورة لا يمكن أن تتطابق مع هوية شخص آخر، فـ»كل شخص، دون استثناء، يتمتع بشخصية مركّبة، ويكفي أن يطرح بعض الأسئلة لإماطة اللثام عن تصدّعات منسية، وتشعبات مفاجئة، ليكتشف بأنه كائن معقد، وفريد، وغير قابل للاستبدال»، وغير قابل للتطابق الكلي مع الآخرين. وهذا ما يجعل تشارلز تايلور يربط بين مفهوم الأصالة ومفهوم الاختلاف في العصر الحديث، فالأصالة تغذي الاختلاف، وما يسميه تايلور «سياسات الاختلاف» يتطلب اعترافا خاصا بالهوية المتفردة التي تختلف بين الأشخاص والجماعات. وهذه الهوية المتفردة هي رديف مفهوم الأصالة عند تايلور، وهي في الوقت ذاته تقع على طرفي نقيض من التطابق مع الآخرين ومحاكاة حياتهم داخل الجماعة أو خارجها.
وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2398 - الإثنين 30 مارس 2009م الموافق 03 ربيع الثاني 1430هـ