العلاقة بين الأمة والسلطة من الموضوعات الشائكة، ولكننا نرى أنه إذا حضرت الأمة بالمعنى الذي تقدم، تعود السلطة إلى حجمها الحقيقي ووزنها الطبيعي، فهناك علاقة عكسية بين حضور الأمة وتضخم السلطة، إذ كلما زادت حيوية الأمة وزادت فعالياتها عادت السلطة للقيام بوظائفها المنوطة بها، وهي تدور أساسا في الرؤية الإسلامية بشأن تهيئة المناخ وتحقيق أرضية من الصلاح تنطلق فيها طاقات الأمة وتزداد فعالياتها لتحقيق مقصود الاستخلاف والعمران، وتجسيد مثاليتها في الواقع المعاش.
والعكس صحيح أيضا: إذ كلما تضخمت السلطة؛ توارت الأمة وضعف دورها، خاصة أن الواقع الموضوعي والنفسي لأجهزة السلطة وأفراد الحكم كل ذلك ينـزع نحو التضخم وزيادة الصلاحيات، والارتفاع فوق الأمة. ويفاقم هذا الوضع تضخم أجهزة السلطة وتشعبها في واقعنا الجاري حتى وصلت إلى جميع أنشطة الحياة؛ فالسلطة لم تعد تملك أدوات العنف المشروع من جيش وشرطة فقط، بل بات لها القدرة على التلاعب بالعقول والأفئدة، وتشكيلها بما تملكه، أو يملكه المتحالفون معها، من أدوات وأجهزة «صناعة المعاني» من تعليم وإعلام!
والوجه الثاني لحضور الأمة: هو «تهميش السلطة» أو انتشارها في الأمة، ليأخذ كل فرد من أفرادها ومؤسسة من مؤسساتها بنصيبه منها، إذ إن مفهوم «السياسة» - في خبرتنا الحضارية - يجعل هناك سياسة الفرد لنفسه «ومن لا يصلح لسياسة نفسه لا يصلح لسياسة غيره»، وسياسة المرأة لبيتها، وسياسة مؤسسات الأمة التي في القمة منها السلطة بالمعنى العام، ففي الحديث «كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته...».
وإذا ما مارس أو باشر كل فرد مسئولياته، توزعت السلطة في الأمة، بما يؤدي إلى تهميش السلطة وعدم تغولها، بما يحد من سطوتها على الأمة: موارد وأفرادا ومؤسسات، وخاصة أن جوهر المسئولية ومضمونها في الرؤية الإسلامية ليس مباشرة السلطة، بل القيام بالرعاية التي وإن كانت تتضمن معنى السلطة، إلا أنها ليست المكون الوحيد، بل هي جزء من مكونات متعددة يتعلق جوهرها بالتربية، والاستصلاح، والتنشئة على الخير.
وليس معنى ما تقدم أن تكون كل من الأمة والسلطة في حال عداء وصدام، فالخبرة الحضارية والتاريخية الإسلامية قدمت لنا نموذجا متميزا في هذا الصدد، فالبنى الاجتماعية والمؤسسات المختلفة التي أنشأتها أمة الإسلام في تفاعلها عبر الزمان والمكان مستهدفة تحقيق ذاتيتها وتطبيق الشرع، هذه المؤسسات وتلك البنى لم تقم متعارضة إزاء مؤسسات الدولة وسلطتها المركزية؛ بل قامت بكثير من الوظائف التي نعترف بها للدولة الحديثة، ونشأت - نتاج هذه الخبرة - علاقة متميزة بين مؤسسات الأمة وبين سلطة الدولة ذات شقين: فهي تعبير عن استقلال الأمة وقوتها إزاء السلطة، ولكنها في الوقت نفسه لا تعمل مستقلة أو منفصلة عنها، بل في تضافر وتكامل حقيقي معها.
الأمة وسلطانها في التصور الإسلامي هي أساس النظام السياسي والتشريعي، بل وأساس النظام الرقابي أيضا (الرقابة على السلطة). إن سند السلطة السياسية في النظام السياسي الإسلامي هو الأمة، والسلطة تستمد سلطاتها ووجودها من إرادة الأمة، وجميع الولايات والسلطات مصدرها الأمة، وسلطان الأمة مستمد من المبدأ الشرعي الذي يوجب عليها - على الأمة - إقامة المؤسسات اللازمة لتطبيق الشريعة.
إن أساس رقابة الأمة على سلطات الحكم ليس مبعثه كونها سند السلطة السياسية ومنشئتها، ولكنها - أي الرقابة - تستند أيضا إلى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعد هدفه الأول ومقصده الأساسي هو أن تتولى الجماعة - كشخصية معنوية - محاسبة الحكام ومنع انحرافهم وظلمهم، فالأمة تختار الحكام، وهذا الاختيار يعطيها الحق في أن تقيد سلطتهم بالقيود التي تراها ضرورية لتحقيق مقصود الاستخلاف وجوهر العمران، كما يعطيها الحق في مراقبتهم ومحاسبتهم في عملهم.
وهذه الرقابة باستنادها إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تنتهي بانتهاء انتخاب أو بيعة القائمين على أمر السلطة، وإنما تستمر بعد انتخابهم وفي أثناء ولايتهم، فواجب النصح لولاة الأمور، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يرتبط بزمن معين أو وقت محدد، وإنما هو فرض يستمر وقته ما دام هناك مقتضى له.
إن فكرة استمرارية الرقابة من قبل الأمة على السلطة تتنافى - إلى حد كبير - مع فكرة «التمثيل» التي تطرحها الديمقراطية الغربية، فالتصور الإسلامي للسلطة يتضمن معنى الوكالة بمعنى قيام الأمة بتوكيل السلطة للقيام ببعض المهام والاختصاصات، وسلطة الوكيل لا تلغي أو تنفي سلطة موكله، فمن حق الموكِل أن يسحب في أي وقت اختصاصات وصلاحيات وكيله. أما فكرة التمثيل فتتضمن النيابة، أي أن صاحب السلطة نائب عن جمهوره أو ناخبيه في التعبير عن مصالحهم والدفاع عنهم، ولا يستطيع المنيب أن يعزل نائبه، بل عليه أن ينتظر نهاية مدة نيابته حتى يعزله، وذلك حين لا يقوم بانتخابه مرة أخرى.
العدد 2394 - الخميس 26 مارس 2009م الموافق 29 ربيع الاول 1430هـ