حملتني الأقدار إلى منطقة صحراوية خارج القاهرة.
وقد يألف أهل الجزيرة العربية الصحراء لطبيعة الجغرافيا ولخروجهم للبر في بلدان عديدة من بلدان الخليج وخبرتهم بالصحراء، أما أبناء المدن أمثالي من سكان الشريط الأخضر الذي يفصلهم عن صحراء ذات اليمين وذات الشمال على خريطة مصر فألفوا ضجيج الشوارع وزحام المدينة، وخاصة أني أسكن في أكثر مناطق القاهرة مركزية وهي - لمن يعرفها - ميدان التحرير.
حين توقفت السيارة على حافة الصحراء، وامتد أمامنا اللون الأصفر والأفق، وبدا لنا لون السماء الأزرق في صفاء لا يشوبه لون دخان التلوث أحسست بأن بصري قد شفي بعد مرض وأن نفسي تنساح من بين جنبيِّ لتسري في الكون.
صوت الصمت بديع، جلست أنصت لبلاغته وأتأمل. حين يغيب صوت الناس تسمع همس الروح رفيقا وترى نفسك في مرآة الكون بجلاء.
صلينا على الرمال دون أن نفترش أي شيء، كدت أتناول من السيارة ما أصلي فوقه فقال أحدنا فلنصل على التراب، إليه نعود.
تذكرت قول أبو العلاء المعري:
خفف الوطء ما أظن أديم ال أرض إلا من هذه الأجساد
في السجود كانت حبات الرمال تلتصق بجبهتي ثم تنفرط كحبات اللؤلؤ حين أقوم، وكانت الأرض أحن وأرحم مما تصورت.
جلست أدعو بصوت خفيض، فصمت الصحراء الحكيم يعلمك غض صوتك...
كم شغلتنا المدن وطرقاتها وأسواقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن أنفسنا.
يقولون المدن تورث الإنسان الحضارة، وفي الفلسفة والتاريخ ربطوا بين المدينة وتحقق كمالات الاجتماع الإنساني، لكن مدننا أضاعت منا في أحيان كثيرة إحساسنا بذواتنا وإنسانيتنا.
تذكرت آراء جان جاك روسو الذي انتقد من ربطوا المجتمع الحديث بالتمدن كقيمة، ورأى في الإنسان الذي عاش على فطرته إنسانا أفضل.
وكنت منذ أيام قلائل أعيد قراءة قصة حي بن يقظان التي علق عليها ابن سينا وابن طفيل وغيرهم، وأتأمل في المعنى العميق الذي يذهب إلى أن الإنسان يستطيع بنفسه أن يسعى للإجابة عن الأسئلة الكبرى ويستلهم حكمة الموت والحياة والخلق ويسلك بالعزلة طريق الحكمة ويبصر ما في نفسه ليعرف ربه.
في قاعات الدرس سألت طلابي أن يقرأوا قصة الأمير الصغير للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكسوبري... وناقشناها، وهي التي تروي قصة خيالية تتقاطع مع حي بن يقظان وروبنسون كروزو لكنها أبسط ولكن لا تخلو من عمق.
وليست هذه دعوة للعزلة والتفرد، بل دعوة لاسترداد علاقتنا بأنفسنا وبالطبيعة، وبالكون.
نحتاج للخروج من أسر المدينة ولو بعض الوقت لنحلق بأرواحنا في سماء صافية في أفق الصحراء لنجدد وعينا بالعالم.
تذكرت أيضا رحلة بطل قصة السيميائي للكاتب البرازيلي باولو كويلو الذي قدر الله أن أرتب له زياته للقاهرة منذ قرابة الأربع سنوات... وهي القصة التي ترجمها للعربية الأديب بهاء طاهر تحت عنوان «ساحر الصحراء».
تروي رحلة شاب من الأندلس إلى مصر عبر دروب الصحراء بحثا عن الكنز وعن سر السيمياء التي تعين على تحويل المواد إلى ذهب، ليكتشف أن الكنز الحقيقي كان مدفونا تحت شجرته التي كان ينام تحتها وهو يرعى الغنم في بلده.
الكنز هو ذاتك... والبحث عنها قد يحملك لأقاصي الأرض، لكنها هنا بين جنبيك... والرحلة ليست رحلة المساحات بل رحلة البحث عن الذات... والصحراء مدرسة في هذا الطريق الطويل.
ليس من الصعب أن يرتحل المرء إلى أطراف الصحراء لينفرد بذاته التي ينازعه إياها عالم العولمة والتكنولوجيا، وهناك أحسست بالخجل من رنة هاتفي الجوال، أحسست أنه لا مكان له هنا، وأن حبات الرمال والحصى تنظر لي بغضب من كسر ناموسها... فأغلقته.
ليس صعبا أن نقضي يوما مع أنفسنا، ونطلق العنان لأفكارنا المحبوسة في مسارات الآلة، فتخضر الروح وتزهر الأفكار والأماني، لكن الصعب حقا هو أن تكون حياتنا في وسط الزحام والضجيج قاحلة جدباء لهذه الدرجة، يغطي حرمانها غطاء كثيف من الإيقاع السريع ووهم الحضارة وطوفان السلع ومساحات الإعلانات وهيمنة الشاشات التي تطاردنا وتستلبنا وتحولنا لأشياء وتغلف علاقاتنا الإنسانية كما تغلف السلع فتفقد زخمها وتختنق معانيها الحقيقية وراء هوس الأشكال والمظاهر.
رفعت نظري للأعلى فشاهدت سربا من الطيور... ربما طيور مهاجرة تقطع المفازات وتسير ببوصلة القدرة الإلهية نحو غاية، فلماذا فقدنا نحن بوصلة الفطرة في حياتنا؟
أسفل الصحراء ماء، تعرف ذلك من بعض العشب هنا وهناك، ترى كيف نعيد اكتشاف قدراتنا التي ران عليها اعتمادنا على التكنولوجيا حتى صارت تحدد لنا كل حركة وتقيس كل مسافة وتزن الزمن بالفيمتو ثانية... لكن توازى مع ذلك فقداننا التام لقدرات مازال يجيدها أهل الصحراء... ومهارات في التعامل مع الطبيعة اندثرت وتآكلت فصرنا لا نجيد التصرف لو انقطعت الكهرباء.
في تحركنا عودة إلى المدينة توقفت السيارة.
خشينا أن تكون قد غرست عجلاتها في الرمال، لكنها انطلقت بفضل الله ثم الدعاء... وطفقنا نتحدث عن عالم الحيوان في الصحراء... الخيل والجمال، كيف تتحرك ومتى تقبل أن تُستأنس، وما يفعله الجمل في رحلته الطويلة.
دار حوارنا عن الصبر، والتسليم والاعتصام بالله، فأنت في الصحراء أقرب...
كل الأنبياء خرجوا للصحراء... هم والغنم تجولوا، وتعلموا من حكمتها وصفت نفوسهم في دروبها.. والغار.
تلك الخلوة التي سبقت نزول الوحي درس كامل نغفل عنه، فيها كان التخلي... والتحلي.
كانت الصحراء هي واحة النفس ومساحة الوصل، بها تم صهر الإرادة وسبك العقيدة.
تهب ريح فكأنها جزء من كل، كأن للريح كيان... تهمس أو تغضب فتثور...
يلتمس اليوم الناس شفاء الأجساد في الصحراء، في مدينة سفاجا على شاطئ البحر الأحمر يعالج الجسد بالدفن في الرمال عدا الرأس... ليتداوى الناس من آلام العظام وبعض أمراض الجلد.
لكن رمال الصحراء دواء لأمراض النفس كذلك.
عدت للقاهرة بسكينة غامرة، مدينتي التي أعشقها، منحتها بعضا من سلامي، وتجولت فيها باسمة والقلب ساكن... وسط ضجيجها الجنوني.
بقي صفاء الصحراء في عيني وقلبي.. فصرت أقدر على تحمل محبوبتي المزعجة.
ولله في خلقه شئون.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2391 - الإثنين 23 مارس 2009م الموافق 26 ربيع الاول 1430هـ