حين يكون المجتمع متعدد الثقافات فإن ضمان المساواة بين جماعاته المتنوعة يكون مرهونا بانسحاب الدولة. هذا ما ذهب إليه جون جراي، بل إن انسحاب الدولة مطلب ليبرالي قديم ومعروف. ولكن هل تنتهي المشكلة بانسحاب الدولة؟ وهل ستزدهر كل الثقافات والهويات المتنوعة في ظل دولة الحد الأدنى؟ يمكن الرد بالإيجاب على ذلك في حال كنا أمام دولة مستقرة وكلية الحضور في مجتمع متنوع ومتعدد الثقافات ولا يوحّده أي تراث أو أسلوب حياة منفرد، ففي هذا النوع من المجتمعات ليس على الدولة أن تتضخم أكثر مما يجب، فلا ينبغي لها أن تصدر القوانين والتشريعات وترسم سياساتها العامة الموحدة في كل كبيرة وصغيرة بما في ذلك ملبس المواطنين ومأكلهم ومشربهم ولهجة تخاطبهم وأسلوب حياتهم. ولكنّ التعدديين الثقافيين يتحدثون عن نوع مختلف من المجتمعات، كما في حالة المجتمعات التعددية التي تنطوي على جماعات شبه عاجزة، وبتعبير بيخو باريخ «محرومة، بصورة بنيوية، وتفتقد المهارة والثقة للمشاركة في الحياة العامة للمجتمع».
والحديث هنا ليس عن الثقافات بالمعنى الأنثروبولوجي والأركيولوجي، بل عن جماعات من الأفراد الحقيقيين؛ لأننا قد نتفق مع جون جراي حين ذهب إلى أنه ليس من مهمات الدولة أن تدعم «الهويات المنهارة» أو الثقافات واللغات المعرّضة للانقراض إذا كان أصحابها أنفسهم تخلوا عنها، إلا أن دعم الأفراد العاجزين والمحرومين واجب على الدولة ولا ينبغي تبرير تخليها عن هذا الدعم بحجة أن معظم العاجزين والمحرومين ينتمون إلى جماعة ثقافية أو عرقية معينة. ثم إن الحديث عن الثقافات لا ينبغي أن ينصرف إلى البقايا و»المستحثات» الأركيولوجية والهويات المنهارة والمنقرضة فقط؛ لأن الثقافات قد تنطوي على مدلول واقعي يتمثل في حقيقة أن التراتب الثقافي بين الجماعات عادة ما يوجد بسبب تراتب اجتماعي وسياسي واقتصادي، وقد يكون هذا التراتب ناتجا عن حالة من الاختلال المزمن في توزيع الثروة والسلطة السياسية في المجتمع. وفي هذا النوع الأخير من المجتمعات سيتحول انسحاب الدولة إلى كارثة على الجماعات العاجزة والمحرومة، وسيصب هذا الانسحاب في مصلحة الجماعات المقتدرة والقوية سياسيا واقتصاديا. وهو ما يعني تعميق حالة العجز والحرمان داخل تلك الجماعات. لنفترض أن دولة في مجتمع متعدد الثقافات يوجد فيه العرب والفرس والتركمان والأكراد، وبحكم توزيع تاريخي مختل للقوة السياسية والاقتصادية تمكن العرب من الإمساك بمقاليد الحكم والحصول على نفوذ واسع داخل الدولة وفي الحياة العامة، في مقابل تهميش كبير كان من نصيب الآخرين. هل من الملائم في هذه الحالة أن تنسحب الدولة لتترك الناس يتدبّرون شئونهم بأنفسهم؟ ألن يعني هذا بقاء الاختلال في توزيع القوة داخل المجتمع كما كان قبل انسحاب الدولة؟ ألن يكون حضور الدولة مطلبا ملحا للجماعات المهمشة من أجل تحقيق التوازن ووضع قطار المساواة على السكة الصحيحة؟
قد يكون انسحاب الدولة إلى حدود معينة مطلبا عادلا إذا كان حضور الدولة الكلي جزءا من المشكلة، وإذا كانت الجماعات المهيمنة تستغلّ الدولة وتتوسل بقوتها لضمان استمرار نفوذها ودوام تهميش الآخرين. ولكن، هل انسحاب الدولة هو الحل الوحيد للقضاء على حالات استغلال الدولة من قبل الجماعات المهيمنة؟ تطرح التعددية الثقافية والمنادون بالعدالة الانتقالية حلولا أخرى من بينها برامج «المعاملة التمايزية» و»التمييز الإيجابي» ودعم الأقليات والمحرومين ونظام الكوتا، بما يضمن تحقيق المساواة ومعالجة آثار الحرمان التاريخي والتمييز السلبي المزمن الذي وقع على هذه الجماعات. ثم إن المعضلة هنا لا تنحصر فيما إذا كنا نطالب الدولة بدعم الهويات المنهارة والثقافات أو اللغات المنقرضة أو المهددة بالانقراض أم لا، بل في ضمان عدم استخدام الدولة من أجل الحفاظ على هوية أو ثقافة ما والتعجيل بزوال الهويات والثقافات الأخرى. فإذا كان دعم الهويات المنهارة ليس من مهمات الدولة، فإن هذا المطلب ينبغي أن ينسحب حتى على الهويات الحيّة؛ إذ ليس من مهمات الدولة دعم هذه الهويات كذلك. وهذا مطلب حيوي فيما يتعلق باعتراف الدولة الرسمي بقومية أو لغة أو دين أو تاريخ أو تراث بعينه، فهل من واجب الدولة أن تحتفظ في متاحفها الوطنية، مثلا، بتراث جماعة الأغلبية المهيمنة على حساب تراث الجماعات الأخرى؟ ثم هل يمكن أن نطلق على هذا النوع من المتاحف متاحف وطنية؟ أليس الأولى أن نسميها متاحف خاصة بالجماعات المهيمنة كما هي على حقيقتها؟ وفي المقابل، هل من واجب الدولة أن تعتز وتحتفظ بتراث ثقافاتها القديمة المنقرضة؟ أليست هذه ثقافات منهارة ومنقرضة؟ ثم ما الضير في اهتمام الدولة بثقافاتها المتنوعة بما فيها الثقافات المهددة بالانهيار والانقراض؟ فإذا كانت الدولة تهتم بالتنوع النباتي والحيواني القائم على أرضها، فلماذا نضع المحاذير حين يتعلق الأمر بحماية التنوع البشري؟ هل حفظ الفصائل الحيوانية والنباتية المهددة بالانقراض أهم من حفظ التنوع الثقافي البشري المهدد بالزوال؟ هل انقراض لغة معينة أو تقليد موسيقي لإحدى الثقافات المهددة بالانقراض أهون من انقراض فصيلة نادرة من النمور والغزلان أو حتى الحشرات والديدان؟
يوجد في التعددية الثقافية من يطالب، ومن منطلق أخلاقي، بسياسات حمائية تجاه الثقافات والتنوع البشري، وبالنسبة لتشارلز تايلور، فإنه لا تكفي المطالبة بأن ندع الثقافات تحمي نفسها ضمن حدود مقبولة، بل علينا جميعا «أن نعترف بالقيمة المتساوية للثقافات المختلفة، وذلك ليس لتركها تبقى فقط، بل لنقدّر ثراءها كذلك». وهناك من يطالب بدعم الدولة للجماعات المهمشة والثقافات واللغات المهددة بالانقراض، ويطالب من أجل ذلك ببرامج الدعم والتمويل الحكوميين. وقد تمثّل هذه المطالب إخلالا بمبدأ المعاملة المتساوية لصالح المعاملة المتمايزة لهذه الجماعات. إلا أن علينا أن نتنبه إلى حقيقة مهمة في هذا السياق، وهي أن الجماعات المهمشة لا تطالب بالضرورة بمعاملة خاصة ودعم حكومي وتمويل رسمي ينقذها من الانهيار والانقراض، بقدر ما تطالب بالمعاملة المتساوية وحقها في الاعتراف المتساوي والتعبير العلني عن هويتها تماما كما هو الحال لدى الجماعات المهيمنة. وما يرفضه هؤلاء هو تعامل الدولة مع هويتهم على أنها «هوية سالبة» أو ناقصة في مقابل هوية الجماعة المهيمنة التي ينظر إليها على أنها «هوية إيجابية» ومرجعية ومعيارية، بمعنى أنهم يرفضون أن تكون للدولة هوية رسمية هي، في نهاية المطاف، هوية جماعة واحدة من بين الجماعات المتنوعة التي تعيش داخل حدود هذه الدولة، وتتمتع بشرف المواطنة فيها.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2384 - الإثنين 16 مارس 2009م الموافق 19 ربيع الاول 1430هـ