قرأت في مطلع العام 2009، خبر فوز الفنانة العربية الأصل الإسرائيلية الجنسية ميرا عوض في تمثيل «إسرائيل»، سوية مع فنانة إسرائيلية أخرى هي اهينوام نيني في مسابقة إيوروفيجن (Eurovision) للأغنية. كتمت نشوة سرت في داخلي مصدرها خشية من أن يفهم البعض هذا النجاح بشكل مغاير، لأنه يترافق في آن مع إمعان آلة الدمار الإسرائيلية في مواصلة جرائمها بحق أبناء غزة. ومنيت النفس أن يفجر العرب حمم غضبهم في تل أبيب عوضا عن سكبها فوق نجاح ميرا. لذلك قررت التريث قليلا قبل طرق الموضوع.
ما خشيته وقع، ومن قلب الأرض المحتلة، عندما نشرت مجموعة، لها مكانتها الاجتماعية والثقافية في العالم العربي إلى جانب «إسرائيل»، نداء مفتوحا موجها إلى ميرا على موقع صحيفة «إيدوعوت أحرنوت» يناشدونها رفض الترشح والامتناع عن المشاركة في المسابقة التي تقام سنويا في مايو/ أيار من كل عام.
ووصف النداء بـ «ورقة التوت» التي تستر عورات «إسرائيل» التي ستستخدم ورقة مشاركة ميرا للاستمرار في ادعاءاتها على أنها دولة «الديمقراطية المستنيرة المحبة للسلام، في وقت تشن فيه حربا دموية في غزة». ويمضي النداء إلى ما هو أبعد من ذلك، فيصف ذهاب ميرا إلى موسكو للمشاركة، على أنه يأتي في «إطار آلة الدعاية التي تحاول خلق مظهر التعايش اليهودي العربي الذي تنفذ بموجبه مذابح يومية في حق المدنيين الفلسطينيين».
ولمن لا يعرف ميرا، فهي مسيحية المنشأ، ومن مواليد 1975 بكفر راما بالجليل، وتنحدر من أصل يمني من جهة الأب، وبلغاري من جهة الأم، الأمر الذي يجعلها تعاني الأمرين: تمييز واضطهاد بفضل انتمائها الشرقي، وقمع من جراء جذورها العربية.
وأصدرت ميرا العديد من الأسطوانات التي غنت فيها بالعربية والعبرية. أكثر من ذلك، وفي العام 2005، سبق أن شاركت ميرا في مسابقة «أيوروفجن»، آملة في تمثيل «إسرائيل» في المسابقة الأوروبية، لكنها حصلت على المرتبة الأخيرة، من جراء -كما تقول ميرا- تحريف في أقوالها كي تبدو وكأنها لا تعترف بدولة «إسرائيل»، عندما قالت «إني لا أشعر بالانتماء لا إلى العلَم ولا إلى النشيد الوطني الإسرائيلي، لأنه لا يمثلني ولا يعبر عني». بفضل ذلك حجب عن ميرا حق المشاركة في المسابقة ذاتها. أما لمن يريد أن يستزيد بأهمية المشاركة في مسابقة يوروفيجن، فيكفي أن نعرف أن عدد مشاهديها يربو على 5 ملايين.
لنا أن نتصور هنا فيما لو صعد من وقّع البيان من حملتهم، ونجحوا في ضم آخرين إلى صفوفهم، وحققوا ما يصبون إليه في إرغام ميرا، بشكل أو بآخر، على العدول عن رأيها وعدم المشاركة.
ستغيب ميرا عن المسرح العالمي، أما «إسرائيل» فلن تتوقف عن ممارساتها الإجرامية سواء تجاه أبنائنا في غزة، أو في أي مكان آخر فلسطيني ترى فيه أي شكل من أشكال الخطر على مستقبل الدولة العبرية. فـ «إسرائيل» لم تبدأ عدوانها في العام 2009، إنها بالأحرى لم تتوقف عنه تجاه الفلسطينيين منذ عام النكبة 1948.
وضع ميرا اليوم، شبيه إلى حد بعيد بوضع الفلسطينيين الذين رفضوا، لأسباب كثيرة مختلفة، مغادرة فلسطين بعد احتلالها من قبل الصهاينة في العام 1948. حينها ارتفعت أصوات كثيرة، كما ارتفعت اليوم في وجه ميرا، متهمة إياهم بنعوت كثيرة، كان أقلها الطعن في شجاعتهم وولائهم لفلسطين، بل وموالاتهم لـ «إسرائيل».
أما اليوم، وبعد مضي أكثر من نصف قرن على قيام الدولة العبرية، كثيرا ما نرى من اتهمهم بالجبن والتآمر، يشيد بصبرهم وشجاعتهم وصمودهم، ويرى فيهم أكبر قوة تهدد الكيان الصهيوني من داخله. حتى المؤسسة الصهيونية ذاتها، لا تتوقف عن الإمعان في اضطهادهم نظرا إلى تنامي قوتهم الاجتماعية والسياسية. لقد تنامى عددهم ليصل إلى قرابة 1.6 مليون نسمة، من مسلمين ومسيحيين، يشكلون ما يزيد على 20 في المئة من سكان «إسرائيل»، وتشغل الأحزاب العربية عشرة مقاعد في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) البالغ عدد مقاعده 120. هؤلاء هم الذين يقول عنهم مخرج الأفلام الوثائقية عن عرب «إسرائيل» محمد بكري «إن روحهم فلسطينية لكن مواطنتهم إسرائيلية».
أما مدير مركز مساواة وهو جماعة معنية بالدفاع عن حقوق عرب «إسرائيل» جعفر فرح، الذين يصر فرح على أن يصفهم «بالمواطنين الفلسطينيين لـ (إسرائيل)» فيحذر من تنامي الدوافع الإسرائيلية من أجل «انتزاع شرعية مواطنتهم بشكل منتظم خلال السنوات الأخيرة»، مشيرا، في تصريح له لوكالة أنباء «رويترز» إلى أن «عرب (إسرائيل) مستبعدون تماما من وسائل الإعلام ومهمشون سياسيا في مواطنتهم ويعيشون في ديمقراطية زائفة هي ديمقراطية يهودية ستحاول في كل الحالات استبعادهم».
ما أشبه اليوم بالبارحة، وكما انتصر عرب 48، وفرضوا أنفسهم اليوم على «إسرائيل»، كذلك انتصرت ميرا، هي الأخرى اليوم، وحرمت «إسرائيل» من القدرة على تجاوزها كما فعلت في العام 2005. وكما فشلت «إسرائيل»، وعلى امتداد الخمسين سنة الماضية من محو الهوية الفلسطينية من نفوس عرب 1948، كذلك ستفشل «إسرائيل» في تحويل مشاركة ميرا لصالحها. وتوقعنا أن تقلب ميرا الطاولة على «إسرائيل»، وتنتزع إعجاب الجمهور الأوروبي الذي سيصفق حينها لصوت عربي أرغم على أن يأتي من «إسرائيل»، دون أن يحيي ما تقوم به آلة الحرب الصهيونية من دمار، سواء كان ذلك في غزة أو تجاه مناطق عرب 1948.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2378 - الثلثاء 10 مارس 2009م الموافق 13 ربيع الاول 1430هـ