العدد 2368 - السبت 28 فبراير 2009م الموافق 03 ربيع الاول 1430هـ

لبنان والمحكمة الدولية والمتغيرات الإقليمية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اليوم تنطلق أعمال المحكمة الدولية الخاصة بالجرائم التي ارتكبت في لبنان خلال السنوات الأربع الماضية. فالمحكمة التي أعلن عن قيامها بموجب القرار الدولي الرقم 1757 حددت مهمتها بمحاكمة المتهمين بجريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه وكل الجرائم والاغتيالات التي أعقبتها وطاولت كبار الكتاب والصحافيين والسياسيين ونوابا ورجالا في السلك الدبلوماسي والقضائي والعسكري.

المحكمة لها وظيفة محددة وتعتمد آليات دولية في التعامل مع ملفات الجرائم وتمتلك صلاحيات قانونية عابرة للحدود ولكنها في النهاية لا تستطيع كسر الأطر المتعارف عليها في علاقات الدول وما تقتضيه الأعراف من احترام للسيادة. وهذه المسألة يمكن أن تشكل عقبة قانونية تؤخر إمكانات التوصل إلى خلاصات واستنتاجات قاطعة في إثبات الاتهامات ودعمها بالمستندات الواضحة التي تؤكد بقوة القانون الطرف الذي يقف وراء سلسلة الجرائم. ولهذا السبب الموضعي ترجح الكثير من المصادر أن تأخذ المحكمة وقتها الزمني وربما لا تنتهي أعمالها قبل 60 شهرا.

هناك صعوبات تواجه المحكمة الدولية الخاصة وهي لا تتوقف على الجانب التقني والأصول الحرفية بل تشمل أيضا تلك الموانع الموضوعية بسبب طبيعة الجرائم السياسية وتنوع الأطراف المتهمة بالمشاركة أو التخطيط أو التمويل أو التدخل أو التنفيذ أو السكوت والتحايل وإخفاء المعلومات. فالجرائم ليست عادية وهي لم تحصل بقصد السرقة ولم تقع في بلد مستقر ولذلك يرجح أن تأخذ المحكمة الكثير من الاحتياطات الأمنية وأن تتحوط من ردود فعل على أية محاولة للتهور أو المغامرة في اعتبار أن الاتهامات ستكون ذات طبيعة سياسية حتى لو جاءت الوقائع الجرمية تؤشر إلى اتجاهات متخالفة.

المحكمة التي أعلن اليوم عن بدء أعمالها يتوقع أن تأخذ مجراها الزمني الطويل نسبيا لأن مهمتها تتجاوز حدود الحرفية والمهنية. وبسبب الاعتبارات السياسية أخذت الأطراف المعنية مباشرة بالتحقيق تتخوف من حصول صفقة تضحي بالمحكمة مقابل تسويات إقليمية - دولية تعطي ضمانات مشروطة بمجموعة خطوات ملموسة تتصل بملفات «الشرق الأوسط» الساخنة.

المخاوف لا تقتصر على قوى «14 آذار» وإنما يمتد شعاعها ليشمل قوى «8 آذار» أيضا. فالمخاوف مشتركة حتى لو جاءت من موقعين متعارضين. جماعة «14 آذار» تتخوف من أن يتحول الانفتاح الإقليمي - الدولي على سورية بداية تراجع عن المحكمة. وجماعة «8 آذار» تتخوف من أن يؤدي تطور الانفتاح الدولي - الإقليمي على دمشق إلى تدشين خطوة تضمن عودة النفوذ السوري إلى لبنان مقابل تعهدات بشأن أمن «إسرائيل» وضبط حدودها.

ربط المحكمة بالملفات السياسية الساخنة في المنطقة مسألة واردة حتى لو استبعدتها الكثير من التصريحات التي دأب المسئولون في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على نفيها بالتأكيد على استقلال القضاء الدولي وعدم قدرة الدول الكبرى على التدخل للتأثير المعنوي والمادي وتوجيه التحقيق بهذا المسار أو ذاك. النفي لا يكفي لتكوين ضمانة لعدم التدخل في الطبيعة التقنية للمحكمة في اعتبار أن المتغيرات الدولية - الإقليمية التي أعلنت عنها إدارة باراك أوباما ستتضمن سلسلة حلقات سياسية متصلة بالملفات الإقليمية وفي طليعتها إيران ولبنان وفلسطين أو حزب الله والمحكمة و»حماس».

الانفتاح الأميركي على دمشق ليس جديدا. فالعلاقة الثنائية لم تنقطع وكان هناك اتصالات وحوارات دائمة خلال السنوات الخمس الماضية. الجديد في العلاقات المتواصلة يقتصر على استئناف الحوار والتنسيق «وجها لوجه» وضمن مشروع المكاشفة والشفافية والوضوح ما يعني أن قواعد اللعبة ستنتقل من وراء الكواليس إلى المسرح السياسي المراقب بالكاميرات وتحت الأضواء. وبهذا المعنى ستفقد القنوات السرية أهميتها ولن تلعب الأطراف الثالثة أدوارها المعهودة في تأمين الغرف السرية لعقد اللقاءات المباشرة وغير المباشرة.

انفتاح ومخاوف

انتقال الانفتاح من وراء الستار إلى قاعات التفاوض يعيد للاتصالات قوتها السياسية ويضعف دور الأجهزة الخفية في تدوير القضايا وتغليفها بالصواريخ الإيديولوجية والقنابل الدخانية. ولهذا بدأت الاتصالات في واشنطن ودمشق تأخذ أبعادها السياسية وسط مخاوف لبنانية من احتمال حصول صفقة على حساب المحكمة في جانب «14 آذار» ودور حزب الله وسلاح المقاومة في جانب «8 آذار».

المخاوف مشروعة وليست مفتعلة وهي مطروحة همسا إذ ترتفع حرارتها وتتراجع بحسب درجات الميزان الدولي والإقليمي. فالكل يعلم في لبنان أن الانفتاح العلني على دمشق لا يعود إلى دوافع إيديولوجية ولا بسبب إعجاب الولايات المتحدة بالنظام السوري. كذلك إبداء «إسرائيل» استعدادها للتفاوض بشأن الانسحاب من الجولان مقابل خدمات يمكن الحصول عليها في الملفين الفلسطيني واللبناني لا يعود إلى قناعة بل إلى رغبة في تأمين حاجة أمنية تتصل بالحدود والمقاومة. الانفتاح إذا سياسي ومشروط بمجموعة نقاط محددة تبدأ بأولوية أمن «إسرائيل» وبعدها تأتي مجموعة نقاط تخضع كلها للنقطة الأولى. ومن ينجح في تقديم ضمانات وتعهدات وخدمات في إطار الاستراتيجية الأميركية ومصالحها يأخذ من واشنطن شهادة حسن سلوك تضمن له دوره وموقعه لفترة زمنية إضافية. كذلك الولايات المتحدة في عهد أوباما بحاجة إلى راحة واستقرار وفسحة هدوء لترتيب أوراقها التي خسرتها أو أفسدتها إدارة جورج بوش. وبسبب ضغط الحاجة تصبح الاحتمالات مفتوحة على قراءات متضاربة وتحليلات متخالفة لا تستبعد وجود تأخير أو مراجعة أو صفقة تستبدل الحرير بالحديد.

المسألة تتعلق بالحاجة والوظيفة والموقع والدور ولا تقتصر على العدالة. فالمصالح أقوى وهي التي تقرر في النهاية اتجاه الميزان وحكم القانون. وهذا الأمر أثار المخاوف ورفع من درجة القلق ما دفع الرئيس الأميركي إلى الاتصال هاتفيا بالرئيس اللبناني ميشال سليمان والتأكيد له على أن المراجعة التي قررتها واشنطن بشأن «الشرق الأوسط» وسورية لن تكون على حساب استقلال لبنان وسيادته. أي أن الولايات المتحدة ستعيد النظر بالأدوات التي استخدمتها الإدارة السابقة وستقرأ من جديد الملفات ولكنها لن تعدل موقفها الثابت من خصوصية بلاد الأرز.

هاتف التطمين ليس ضمانة نهائية وإنما قد يكون محاولة لكسب الوقت حتى تتوضح صورة الحكومة الإسرائيلية الجديدة ومدى استعدادها لمساعدة واشنطن في تحريك ملف السلام في «الشرق الأوسط». فالهاتف مؤقت ومجرد دقائق في سياسة طويلة الأمد، وهو عرضة للتأويل والتفسير في حال اقتضت الحاجة الأميركية التضحية بالصديق اللبناني لمصلحة الحليف الإسرائيلي.

هذا الجانب السياسي من الموضوع يلقي بظلاله على أعمال المحكمة التي بدأت اليوم. واليوم في منطق العدالة طويل وصعب ويختلف عن يوم المجرم والجريمة. فالجريمة تحصل في دقائق وساعات بينما يتطلب التحقيق بها وكشف ملابساتها وتحديد شخصية المتهم مئات الأيام وعشرات الأسابيع وأحيانا سنوات.

مضت حتى الأن أربع سنوات على جريمة اغتيال الحريري وصدر بشأنها 11 تقريرا أشرف ثلاثة محققين دوليين على جمع معلوماتها وصوغها وصولا إلى إعلان انطلاق المحكمة اليوم. وطول المدة الزمنية في التحقيق تؤشر إلى احتمال أخذ المحكمة الدولية الوقت الطويل لصدور الاتهامات. ومن الآن حتى تصدر الأحكام القانونية بعد ثلاث أو خمس سنوات تكون الكثير من المتغيرات الدولية دخلت في القنوات الإقليمية. ولهذه الأسباب ظهرت بوادر مخاوف على المحكمة من جانب «14 آذار» وعلى المقاومة من جانب «8 آذار»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2368 - السبت 28 فبراير 2009م الموافق 03 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً