عندما كتبت في مقالات عدة عن الفساد الإداري، اتصلت بي إحدى الكفاءات التي كانت تعمل في نفس الوزارة وفي نفس الدائرة وقتها كانت المديرة واحدة أخرى استبدلت الآن، تذكرت حينما قرأت مقالات الشجون والأنين والألم، قررت حينها أن أحمل القلم من جديد لأكتب معاناة تلك الكفاءة ومصيرها والنتيجة التي توصلت إليها بإرادتها وقناعاتها الشخصية المطلقة وبدورها رحبت بذلك لأغراض الاستفادة من تجارب الآخرين في رسم ملامح المستقبل.
فعلى رغم أنني لم أشير في مقالاتي إلى اسم الوزارة ولم أحدد الإدارة إلا أن القراء أغلبهم حينما قرأوا المقالات استطاعوا أن يعرفوا الوزارة المقصودة والإدارة المعنية، وهذا يدل على أن ما تطرقت إليه يلامس الحقيقة ويصفها وصفا دقيقا وإلا لتعذر عليهم فك طلاسم المقالات وحيثايتها.
فرار كفاءة ربما لن تكون الأولى ولا الأخيرة لا في الوزارة ذاتها أو في الإدارة بعينها ولا في الوزارات والإدارات الأخرى، أصبح الأمر طبيعي والقرار متوقع من أي أحد سواء كان بالفعل كفاءة بحسب إدعاءاته أو عادي بحسب المقاييس الأخرى الموجودة والتي في ظلها يتم رسم درجات الترقي والتدرج في السلم الوظيفي.
الكفاءة التي أزعمها في مقالي هذا عرفت طوال فترة عملها في الوزارة بالإخلاص والتفاني في عملها فهي على كل حال تحب عملها لدرجة العشق فلا تبخل عليه بوقتها الثمين ولا بعطائها الكبير، تقدم كل إبداعاتها له بلا كلل أو ملل، وبلا إنزعاج، تعطيه من طاقتها بل تسخر طاقاتها له وحده.
ظلت هكذا سنوات عدة بلا أدنى تقدير، لم تميز عن غيرها على رغم ما يتميز أداؤها عن غيرها، لم تشكر في يوم من الأيام وهذا أضعف الإيمان، لم ولم ولم، كانت تحلم في يوم من الأيام أن تعطى الفرصة لتخدم وزارتها بصورة أكبر من خلال إعطاءها منصب تتحمل من خلاله مسئولية أكبر، ولكنها لم تحظ به، بالمناسبة حلمها لم ينطلق لأسباب مادية بحتة فهي مقتدرة ماديا ولا تحتاج إلى البعد المادي ولكنها تحتاج طبعا إلى البعد المعنوي، وكانت تشعر بالألم كلما أعطيت الفرصة لغيرها التي لا تنتقص من حقهم أو من قدرهم ولكنها لكونها تشعر بالشفقة عليهم لكونهم سيعانون بمعنى الكلمة فالمناصب التي تقدم لهم أكبر بكثير من قدراتهم وإمكاناتهم المتواضعة، وكانت تستغرب أيضا من كون الوزارة تراهن على أن البعض سيحاول أن يطور من نفسه وسيعيد قراءة نفسه بناء على المنصب الجديد، وتتجاهل من هو أصلا جاهز لتسلم ذلك المنصب.
فليست المسألة مسألة وقت كما تعتقده الوزارة، ولكن المسألة أعمق بكثير فالمسألة مسألة مبدأ وعليها أن تحدد موقفها منه، ولكن يبدو بأن من يرسم السياسات والتوجهات العامة للوزارة لا يقدر على التشخيص الدقيق والتحليل السليم على رغم أن الحقائق واضحة والأرقام تنطق بنفسها كما أن الملامح جدا بارزة ولا تحتاج إلى مكبر أو مجهر. فالعين المجردة قادرة على رؤية الحقيقة الناصعة.
فكما يحزننا أن نعلم ذلك وأن نقوله بلساننا، أحزن أيضا الكفاءة التي نتحدث عن قصتها اليوم فقررت في يوم من الأيام أن تنسى حلمها وأن تعيش الواقع بكل ما فيه من قسوة وبالفعل استطاعت ذلك.
قررت أن لا يكون لها حلم في تلك الوزارة وقررت أن تنسى أن لها حق في تلك الوزارة وقررت أن تغمض عينها كل شيء يؤذيها وقررت أن تستعيد كرامتها، وقررت حينها أن تفر من إلى حيث لا مكان للوزارة فيه، أحست حينها بالراحة لأنها شعرت حينها بكرامتها التي هدرت وهي في ظل تلك الوزارة التي سلبت منها ما سلبت، ظنت حينها بأنها كانت قد ظلمت نفسها سنوات حيث أنتقصت من شخصيتها بانتسابها لتلك الوزارة، حست بعد أن قررت بالحرية المطلقة و بالإنسانية النقية. فلا أحد يراهن على كرامته وعلى سعادته وراحة باله مقابل البعد المعنوي الذي ينشده وهو مقتدر وغير بحاجة إلى الوظيفة ولكن المعادلة تكاد تكون مقلوبة فالوزارة هي من في أمس الحاجة إليها.
هل تعرفون ماذا كان موقف الوزارة من قرار الكفاءة؟ قد يكون موقفهم إيجابي سلبي، لأنهم ما إن عرفوا بقرارها حاولوا جاهدين ثنيها وإعادة النظر في القرار من قبلها، شعروا بأنها كفاءة وحرام أن تخسرها الوزارة، ولكنهم في ذات الوقت بخلوا عليها ليس فقط طوال فترة عملها بل حتى عندما قررت الفرار عرضوا عليها حينها أن تلعب أحد الأدوار الإدارية التي كانت في يوم من الأيام تحلم أن تلعبه، ولكنها رفضت لأنها شعرت حينها بأن الوقت قد فات فضلا عن أنها اليوم بعد أن استيقظت من غفلتها وبعد أن استعادت حريتها عرفت بأنها أكبر بكثير من أن تلعب هذا الدور، ربما لو أنهم عرضوا عليها هذا الدور مسبقا لكان موقفها مختلف ولو أنهم عرضوا عليها دور آخر لتلعبه يمكن أن تظل ولكنهم ولضيق أفقهم ساهموا في فرارها.
اليوم وهي تراقب أوضاع الوزارة من بعيد، ومن خلال ما تسمعه من أخبار هنا وهناك، تذكرت مأساتها وتذكرت تلك المشاهد المؤلمة وأكدت على أن الوزارة لا تتغير أبدا حتى مع تغير الوجوه والأسماء، فالنظام هو نفسه، والسياسة هي نفسها ودرجة التعاطي لا تتطور، وبدورها تؤكد الأساسات وعلى القيادة العليا للوزارة التي عليها أن تتغير حتى تتغير السياسات والتوجهات وبالتالي تتغير المفاهيم والحقائق، أما إذا بقى الحال على ما هو عليه فالكفاءات ستفر واحدة بعد الأخرى، وما دون ذلك سيظلون يتربعون على المقاعد وسيتم تحريكهم من الأعلى وفق ما يرغبون وما يطمحون إليه وهذا بدوره له تداعيات جدا خطيرة على الميدان، وعلى المخرجات والنتائج المرجوة. وهنا بيت القصيد لا يمكن لنا السكوت على ما هو خطأ ونراه كذلك دون أن ننطق بكلمة حق ودون أن نشعر بأن هناك من يرغب في سماعها.
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 2365 - الأربعاء 25 فبراير 2009م الموافق 29 صفر 1430هـ