العدد 2364 - الثلثاء 24 فبراير 2009م الموافق 28 صفر 1430هـ

قبسٌ في الذكرى

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مرت أمس، الثامن والعشرين من شهر صفر، ذكرى وفاة الرسول (ص)، الذي أرسلته السماء رحمة للعالمين. وفي أقل من ربع قرن غيّر وجه الجزيرة العربية، وفي ربع القرن التالي أطاح أتباعه من المهاجرين والأنصار بموازين القوى الدولية التي حكمت العالم قرونا بعد قرون.

ولد يتيما فلم ير أباه عبدالله، وذلك في عام هجوم الأحباش على مكة الذي سمي «عام الفيل». ولم يكمل السادسة حتى فقد أمه آمنة بنت وهب سيد بني زهرة، ولم يكمل التاسعة حتى فقد جدّه عبدالمطلب، فانتقل إلى كفالة عمه أبي طالب.

قرّاء السيرة يعلمون أن أم الرسول (ص) تُوفيت ودفنت بقرية اسمها «الأبواء» على الطريق بين مكة والمدينة، بعد أن مرضت وهي في طريق عودتها من زيارة أخواله بني النجار، كما في سيرة ابن هشام. وفي تلك الزيارة حرصت على أن تزور مع الطفل اليتيم قبر زوجها الشاب الراحل عبدالله، الذي دفن بالمدينة بعد عودته من رحلةٍ للتجارة في الشام. قبل عام، زار فريق إعداد أحد البرامج الوثائقية بإحدى الفضائيات الأبواء، ولكنه لم يستطع الاستدلال على قبر آمنة، ولكن فريق الإعداد والتصوير والإخراج دمعت عيونهم وهم يستعرضون تلك الذكرى، حيث أغمضت الأم عينها للمرة الأخيرة، وتركت طفلها في الصحراء الموحشة، مع جاريتها الحبشية أم أيمن، التي ساعدها أهل القرية في دفن سيدتها، وإعادتها مع اليتيم إلى أهله بمكة.

هذه الحادثة ظلّت محفورة طويلا في نفس الطفل الصغير حتى آخر حياته الحافلة بالدعوة والحروب والغزوات. فبعد أن بلغ الأربعين وتلقى الوحي، نزل من غار حراء مبشّرا قومه بدينٍ جديدٍ ثلاثة عشر عاما، ثم هاجر إلى المدينة حيث أقام دولته وبسط سلطته... ومع ذلك ظلّ ذلك الحادث في نفسه، يتذكر كلماتها الأخيرة وهي تسلم الروح: «كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى». وهي كلماتٌ أوردها وزير الإعلام السعودي الأسبق محمد عبده يماني في كتاب له عن فاطمة الزهراء.

هذه اللقطة التاريخية المليئة بالعاطفة والأشجان، سجلها حديثٌ مرويٌ عن عبدالله بن مسعود (رض)، وذكرها الكثير من المؤرخين ورواة السيرة، الذين تأثروا بمشهد خروج النبي (ص) مع أصحابه حتى انتهوا إلى المقبرة، وجلس عند أحد القبور فناجاه طويلا، ثم ارتفع صوته بالنحيب وبالبكاء، فبكى أصحابه لبكائه... وعلموا بعد ذلك أنه قبر أمه التي فارقها منذ أربعين عاما.

كان رحيما عطوفا، رقيق القلب، حين ظفر المسلمون برجلٍ من بني سعد كان مطلوبا، وأُتِي به وبأهله الرسول، تعرف على الشيماء، أخته من الرضاعة، فبسط لها رداءه وأجلسها عليه، وخيّرها بين البقاء مكرّمة عنده، وبين العودة إلى أهلها، فاختارت العودة إلى قومها، فردّها معزّزة بعد أن أعطاها جارية وغلاما اسمه مكحول، فزوّجتهما. وكان يحتفي كثيرا بصديقات زوجته الأولى أم المؤمنين خديجة، عندما كن يزرنه فيكرمهن تكريما لذكرى زوجته الكبرى.

بعد انصرافه من الطائف، كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى (صاحب المعلقة المشهورة) لأخيه كعب، أحد الشعراء الذين تصدّوا لمقارعة الدين الجديد، فنصحه بالعودة عن غيّه وطلب الصفح من رسول الله، فخرج حتى قدم المدينة، فاصطحبه أحدهم للقاء الرسول عند صلاة الفجر فصلّى معه، ثم قام إليه ووضع يده في يده، وكان (ص) لا يعرفه، فقال له: «إن كعب بن زهير جاء مستأمنا تائبا مسلما، فهل تقبل منه إذا جئتك به»؟ فقال (ص): نعم. فقال: أنا كعب. ثم أنشد قصيدته الخالدة التي يبدأها بالتشبيب والتغزل في الحبيبة على عادة أهل ذلك الزمان:

بانت سعادٌ فقلبي اليوم متبول

متيمٌ إثرها لم يُفدَ مكبولُ

تلك هي تعاليم محمد وأخلاقه العالية، يبكي على قبر أمّه في الصحراء بعد أربعين عاما من وفاتها وفاء وحبا, ولو جاء اليوم لقال عنه بعض الجفاة: مشرك أو صاحب بدعة يكرم المرأة ويعاملها بعطف وحنو، بينما يتطاول القوم بأيديهم على النساء. يقدّم العفو عند المقدرة، والصفح على العدوان، فما أحوج الأمة إلى هذا القبس من النور في ذكراه، وصدق كعبٌ إذ يقول:

إن الرسولَ لنورٌ يُستضاء به

مهنّدٌ من سيوفِ اللهِ مسلولُ

فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 2364 - الثلثاء 24 فبراير 2009م الموافق 28 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً