العدد 2364 - الثلثاء 24 فبراير 2009م الموافق 28 صفر 1430هـ

رسالة خاصة إلى الصديق جوزيف

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مضت سنة ثانية على رحيلك يا جوزيف (سماحة). وفي السنة الثانية لغيابك حصلت الكثير من التطورات في العالم. فالثابت الوحيد في عالم البشر أنه يتغير دائما وتتعدل صوره وهيئاته وشخصياته. فهناك من يذهب مخلفا الكوارث وهناك من يأتي حاملا الأحلام والوعود. وهذا ما حصل خلال السنة الماضية.

عالميا وقعت أزمة مالية كونية زعزعت الاستقرار الاقتصادي وبدأت بتهديد شركات كبرى بالإفلاس والتوقف عن الإنتاج. بدأت الكارثة في 14 سبتمبر/ أيلول 2008 حين دبت الفوضى في البورصات العالمية وأسواق المال. وخلال ساعات وأيام تبخرت ثلث ثروات البشر، وأخذت الأزمة تمتد وتتفرع ويرجح أن تستمر أكثر من سنتين حتى تستقر التداعيات على قعر ثابت وقواعد صلبة. الأزمة كبيرة وتبدو أضخم مما يقال عنها وربما تكون الأقوى منذ العام 1929. حتى الفقراء أخذوا يستشعرون بهول الضربة إذ بدأت المؤسسات تعصر النفقات وتسرح العمال وتتخذ خطوات لمنع تسلل تبعات الركود إلى قطاعاتها.

الأزمة المالية هائلة وكتب عنها مئات المقالات والدراسات. وهناك ما يشبه الإجماع على تحميل نظريات «اقتصاد السوق» و«الرأسمالية المتوحشة» وقوانين التجارة الحرة الخارجة على الرقابة مسئولية ما حدث، الأمر الذي دفع «الدول» للتدخل لإنقاذ ما تبقى معتمدة سياسات وإجراءات تتعارض مع أنصار نظرية آليات السوق والخصخصة. فالدول تدخلت وخفضت الفوائد والضرائب ودعمت المؤسسات المتهالكة بمليارات الدولارات في خطوات أشارت إلى بدء عودة خجولة إلى أنظمة الرقابة والقطاع العام.

حتى الآن لم تستقر الموجات وهي أسفرت عن نتائج سياسية مهمة لا تقل عن الجوانب الاقتصادية. في الولايات المتحدة مثلا ساهمت الأزمة المالية في حدودها الدنيا بالإطاحة بمترشح الحزب الجمهوري جون ماكين ما أعطى فرصة استثنائية لتقدم المترشح الديمقراطي المنافس باراك أوباما.

الحدث الكوني الثاني الذي هز العالم تمثل في فوز أول رئيس للولايات المتحدة من أصول إفريقية. فأوباما الآن أصبح في البيت الأبيض بعد أن نجح في كسب الجمهور الانتخابي وتشكيل تيار عريض من القوى المتضررة من سياسات «تيار المحافظين الجدد» وإستراتيجيته التقويضية.

ما كان خارج الصورة أصبح الآن في وسطها وأوباما الذي خاض المعركة لم يكن يتوقع أنه سيفوز في نهايتها بقوة القانون وفي ظل فضاءات إعلامية وشعبية أبدت دعمها لصاحب خطاب يحمل الكثير من الأحلام والتوقعات. فوز أوباما ساهم حتى الآن في طرد جورج بوش وزمرته من واشنطن ولاقى الارتياح العالمي (الأوروبي تحديدا) وأعطى بعض صدقية لصناديق الاقتراع وما تحمله أحيانا من آمال بحصول تغيير. إلا أن نتائج التصويت ليست كافية لتعديل السياسات والقرارات، وهذا الأمر يتطلب بعض الوقت لمعرفة الاتجاهات. فهل يستطيع أوباما قيادة السفينة بالاتجاه المعاكس للرياح؟ وهل يمتلك القدرة على التحدي وتجاوز العقبات والضغوط؟ وهل يستطيع تأمين الحد الأدنى من الانفراج الدولي مستفيدا من أجواء الارتياح الدولي؟ بين الارتياح والانفراج خطوات كبيرة ولكنها هائلة الحجم في تأثيرها في حال نجح في تجاوز مطباتها.

العالم حتى الآن ينتظر ولكن الآمال التي بالغت في توقعاتها أخذت تتراجع بسبب تلك الصعوبات والكوارث التي خلفها سلفه بوش قبل مغادرته البيت الأبيض. فالتركة ثقيلة وهي لا تقتصر على إطفاء تلك الحروب التي أشعلها بوش وإنما تشمل عشرات القضايا التي زلزلت الاقتصاد الكوني وأنهكت ثروات الشعوب وزعزعت الثقة بالتقدم العادل وبهدلت سمعة الولايات المتحدة وصورتها وطموحها لقيادة العالم.

هبة باردة وهبة ساخنة

جوزيف، العالم تغير وينتظر المزيد وهناك توقعات يمكن أن تحصل في الشهور المقبلة تتصل بالعلاقات الأميركية - الدولية بدءا بتصحيح الانحراف مع الاتحاد الأوروبي وتعديل الخلل في التعامل مع روسيا الاتحادية وصولا إلى تحسين الرؤية الأميركية في معالجة ملفات «الشرق الأوسط» الساخنة وفي طليعتها القضية الفلسطينية التي تعتبر على رأس جدول أولويات المشروع العربي.

في الجانب الفلسطيني تبدو الأمور متجمدة ومرجحة للمزيد من التدهور بعد فوز أقصى التطرف الصهيوني في الانتخابات الإسرائيلية. وهذا الجانب الذي تعرض لعدوان تدميري على غزة في الأيام الأخيرة من عهد بوش طرح مجموعة تحديات أمام الدول العربية والعالم الإسلامي.

العدوان قوض القطاع إلا أنه فشل في تحقيق أهدافه السياسية التي تضمنت مجموعة نقاط غير معلنة تبدأ بهدم مؤسسة جامعة الدول العربية والقمة الدورية، وضرب مبادرة السلام لكونها تشكل مظلة للمشروع السياسي العربي الراهن، وتقسيم السلطة الفلسطينية ودفع علاقات الفصائل إلى مزيد من التدهور الأهلي، وتشكيل مرجعية بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية غير معترف بها عربيا ودوليا. كل هذه الغايات لم تتحقق حتى الآن ولكن حكومة أيهود أولمرت الفاشلة والمتهمة بالفساد والتوطين وتهويد القدس لاتزال تصرف الأعمال تحت سقف تحطيم القطاع وتدمير غزة وعزلها عن الضفة.

الجانب الفلسطيني لا يمكن عزله عن حلقات السلسلة بدءا من باكستان وأفغانستان وإيران وصولا إلى العراق ولبنان. فكل الحلقات مترابطة وهناك توقعات غير واضحة تفترض إجراء تغييرات بشأنها في الأسابيع المقبلة من إدارة أوباما. فالإدارة الجديدة طرحت فكرة «الدبلوماسية الذكية» في التعامل مع الملفات ولا يعرف حتى الآن المعنى المقصود من «الذكية» وهناك مخاوف من أن تكون نسخة مكررة تقارب كثيرا «القنابل الذكية» المشهود لها بكثرة الأخطاء وعدم إصابة الأهداف.

جوزيف، الشهور المقبلة قلقة لكون المنطقة تنتظر تبلور الإستراتيجية الأميركية في ضؤ تداعيات الأزمة المالية الكونية وانهيار أسعار النفط مئة دولار للبرميل في أقل من نصف سنة. فالمنطقة متخوفة من الحكومة الإسرائيلية التي تطرح تصورات مبالغة في تطرفها الصهيوني. وهي أيضا تراقب الطبيعة السياسية لتلك الرسائل الودية التي أبدت واشنطن استعدادها لتوجيهها إلى دمشق وطهران. وهي أيضا لا تدرك التطورات الأمنية المتوقع حصولها في العراق (الانسحاب وإعادة نشر قوات الاحتلال) وأفغانستان (تعزيز الاحتلال بالمزيد من القوات).

أما لبنان الذي يعتبر عادة مرآة المنطقة فهو لايزال منذ غادرت الدنيا يتعرض لهبة ساخنة وهبة باردة. فهذا البلد الصغير يمر الآن في لحظة انتقالية بين السخونة والبرودة بعد أن كاد الكيان يتعرض للانهيار إثر اقتحام بيروت الغربية وبعض مناطق الجبل في 7 مايو/ أيار الماضي. وأدت تدخلات اللحظات الأخيرة إلى ترتيب وضعه في اتفاق عقد في الدوحة وأدى إلى تبريد الأجواء وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة مشتركة ورفع الاعتصام من وسط بيروت وغيرها من إجراءات تمهيدا للانتخابات النيابية التي ستعقد في ظل قانون العام 1960 في يونيو/ حزيران المقبل. لبنان يرجح أن يبقى دولة موقوفة بانتظار أن تتبلور الكثير من الملفات والمواقع والأدوار الإقليمية وهذا يعني أن ساحة البلد ستبقى مفتوحة ومكشوفة على تعديلات وتشنجات مرهونة بالمعادلات الإقليمية والتوجهات الدولية.

جوزيف، هناك الكثير من التطورات حصلت في العالم لا يمكن حصرها ولكنها تصنف. فمنها الجيد والجميل ومنها الرديء والسيئ. فالحوادث لا تتوقف والأخبار تحمل يوميا صدمات وخصوصا تلك التي تصيب المقربين والأصدقاء.العام الماضي حمل الكثير من الأنباء المؤلمة إذ غادر العالم بعض أعز الأصدقاء. الشاعر الصديق محمود درويش حمل حقيبته وغادر عائدا إلى الوطن. الروائي الكبير الطبيب صالح غاب وهاجر من الشمال إلى الجنوب. وفي الشهر الذي رحلت غاب الشاعر بسام الحجار، وفي أسبوعك غاب الصديق الكاتب صالح بشير وأيضا الصديق الصحافي قاسم جعفر الذي كنت تلقبه مازحا بـ «الطفل المعجزة».

جوزيف، الأطفال يكبرون ويرحلون والعالم يتجدد ويتغير. ولعل هذا هو الثابت الوحيد في دنيا البشر

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2364 - الثلثاء 24 فبراير 2009م الموافق 28 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً