في فبراير/ شباط الماضي أسقط مجلس الشورى، وللمرة الثانية، مشروع قانون التقاعد المبكر للمرأة والمقدَّم من قبل مجلس النواب، وذلك بحجة أنه يخالف المادة (18) من الدستور التي تؤكد على مبدأ المساواة بين المواطنين. وقبل هذا بأيام تحفظت الحكومة على مشروع قانون إنشاء هيئة بيت الزكاة، وقالت في مذكرة إلى مجلس النواب: «إن مشروع القانون اقتصر في أحكامه على إحدى طائفتي المجتمع البحريني المسلم وهي الطائفة السنية من دون الطائفة الأخرى وهي الطائفة الشيعية، من دون مبرر ولا مسوغ، فإنه يكون قد انطوى على مخالفة دستورية تتمثل في مخالفة المادة 18 من الدستور التي تقرر مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وعدم التمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. ذلك أن القانون ينبغي أن يتضمن أحكاما موضوعية عامة ومجردة تتسع لكل المواطنين وتطبق في شأنهم جميعا من دون ما تمايز ولا تباين بينهم ومن دون ما استثناء أو استبعاد لبعضهم، طالما أنهم يخضعون لمركز قانوني».
هذه قضية تقع في صلب اهتمامات التعددية الثقافية، إلا أن مجلس الشورى والحكومة يحتكمان لمرجعية تشريعية تقع على النقيض من مطالب التعددية الثقافية ومفاهيم المعاملة العادلة المتمايزة والتي تعني أن المعاملة قد تكون متمايزة وعادلة في الوقت ذاته. ويفهم من تحفظ الحكومة السابق أنها تتعامل مع المعاملة التمايزية على أنها معاملة تمييزية تنطوي على مخالفة دستورية بالضرورة. وهنا لا يمكن الرد على تحفظ الحكومة بتذكيرها أنها هي من دفعت «قانون أحكام الأسرة» إلى مجلس النواب وهو ينطوي على شقين متمايزين: سني وشيعي؛ والسبب أن الحكومة سترد بأنها التزمت بمبدأ المعاملة المتساوية حين دفعت بهذا القانون ذي الشقين، فهي لم تمارس التمييز في هذه الحالة، في حين أن الأمر سيختلف في حال قامت الحكومة بدفع قانون لأحكام الأسرة بشق واحد يخصّ السنة فقط، أو يخصّ الشيعة فقط. إلا أنه قد فات الحكومة أن المادة (18) تقرر المساواة بين جميع المواطنين في «الحقوق والواجبات العامة» وليس في الحقوق والواجبات الخصوصية والتي تندرج تحتها الحقوق والواجبات الدينية والمذهبية؛ لأنها حقوق وواجبات خاصة بالضرورة. ثم فات الحكومة كذلك أن هذه المادة تتحدث عن جميع المواطنين لا عن خصوص المسلمين سنة وشيعة فقط. هذا يعني أن التمييز سيبقى قائما حتى في حال قامت الحكومة، كما عملت في قانون أحكام الأسرة، بدفع قانون واحد بشقين: سني (في حال بيت الزكاة) وشيعي (في حال الخمس)، والسبب أن هذا سيفهم على أنه تمييز يستهدف المواطنين غير المسلمين، وفيهم يهود ومسيحيون وبهائيون وغيرهم، وإن كان هؤلاء يمثّلون أقليات صغيرة محدودة العدد ولا تتجاوز نسبتها الـ1 في المئة من مجموع المواطنين. إلا أن هذا لا ينفي حقيقة أن قيام الحكومة بتنظيم الشئون الدينية للمسلمين فقط هو معاملة امتيازية للمسلمين، وتمييزية تجاه الديانات الأخرى.
إلا أنه لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن الدستور ذاته ينص على أن»دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع» (مادة - 2). هذا يعني أن المسألة تتصل بسياسات الاعتراف. والاعتراف هنا ليس مفهوما سطحيا وزائدا عن الحاجة كما قد يفهم من الانتقادات التي توجه لهذا المفهوم، بل ثمة التزامات على الدولة الوفاء بها تجاه من تعترف به. فاعتراف الدولة بالإسلام كدين رسمي ينطوي على جملة التزامات، فهو يسمح للدولة باعتماد المناسبات الإسلامية كعطل رسمية في روزنامة الدولة مثل رأس السنة الهجرية ومولد النبي والوقوف بعرفة وعيدي الفطر والأضحى، كما أنه يلزم الدولة بحماية الدين الرسمي وتعزيز حضوره في مناهج التربية الدينية في مختلف مراحل التعليم (مادة 7 - ب من الدستور)، ويلزمها بمعاقبة كل من يسيء إليه ويمسّ بأسس عقيدته (مادة - 23 من الدستور)، وبتنظيم أحوال المواطنين الشخصية في محاكم دينية رسمية. وفي المقابل، تكون الدولة في حلٍ من أي التزام دستوري يفرض عليها تعزيز حضور أي دين آخر غير الإسلام، ولا معاقبة أي مسيء أو ماسّ بأسس أية عقيدة غير الإسلام، ولا تنظيم الأحوال الشخصية وإنشاء محاكم دينية لغير المسلمين. وهذا ما قد يفهمه أبناء الديانات الأخرى على أنه تمييز بحقهم، وهو تمييز يتعارض مع مبدأ المعاملة المتساوية أمام القانون والتي نصّت عليها المادة (18) من الدستور.
ومع هذا، فإن «قانون العقوبات» البحريني يخصص فصلا خاصا لجرائم «المساس بالدين»، وهو يتحدث عن «ملل معترف بها»، هكذا بصيغة الجمع، الأمر الذي يعني أن ثمة أكثر من ملة معترف بها في الدولة. ويحتوي هذا الفصل على عقوبات بالحبس وغرامات مالية بحق «من تعدى بإحدى طرق العلانية على إحدى الملل المعترف بها أو حقّر من شعائرها» (مادة - 309)، أو «من طبع أو نشر كتابا مقدسا عند أهل ملّة معترف بها إذا حرّف نصه عمدا تحريفا يغيّر من معناه أو حقّر من أحكامه أو تعاليمه»، و»من أهان علنا رمزا أو شخصا يكون موضع تمجيد أو تقديس لدى أهل ملة»، و»من قلّد علنا نسكا أو حفلا دينيا بقصد السخرية منه» (مادة - 310)، و»من تعمّد التشويش على إقامة شعائر ملّة معترف بها أو على حفل أو اجتماع ديني أو تعطيل شيء من ذلك أو منعه بالقوة أو التهديد»، و»من أتلف أو شوّه أو دنّس بناء معدا لإقامة شعائر ملّة معترف بها أو رمزا أو أشياء أخرى لها حرمة دينية» (مادة - 311).
تضمن هذه المواد للأديان والملل حرمتها، إلا أنها تضع قيدا لهذه الضمانة وهي أن تكون الملة «معترف بها»، فما معنى الاعتراف هنا؟ وكيف يثبت هذا الاعتراف؟ فإذا كان الدستور لا يعترف إلا بالإسلام كدين رسمي للدولة، فكيف يتحدث «قانون العقوبات» عن ملل أخرى معترف بها؟ هذه قفزة في المدونات التشريعية والقانونية تحتم علينا التمييز بين الدين الرسمي للدولة، وبين الاعتراف الرسمي بالأديان والملل الأخرى في الدولة من دون أن تكون، بالضرورة، أديانا ومللا رسمية. فالدولة، على سبيل المثال، تعترف بالمذهب الشيعي بدليل وجود مؤسسات دينية شيعية رسمية مثل المحكمة الجعفرية وإدارة الأوقاف الجعفرية، إلا أن هذا لا يعني أن المذهب الشيعي هو المذهب الرسمي في الدولة. كما أن الدولة تمنح أبناء الأديان والملل الأخرى الحق في المجاهرة بدينهم وبناء دور عبادتهم وإقامة شعائرهم، إلا أن هذا لا يعني أن هذه الأديان رسمية في الدولة.
وعلى رغم وجاهة هذا التمييز، إلا أن الاعتراف يبقى مفهوما غامضا، فلا أحد يعرف مدلوله على وجه التحديد، ولا أحد يعرف كيفية ثبوته أو عدمه، فهل السماح بإقامة دور العبادة وممارسة الشعائر دليل على أن الدولة تعترف بهذا الدين أو ذاك؟ ربما كان ذلك صحيحا في حالة الدين اليهودي والمسيحي، إلا أنه غير صحيح في حالة البهائيين، ففي الوقت الذي نرى الدولة تسمح بتوثيق عقود الزواج اليهودية والمسيحية، نراها ترفض توثيق عقود زواج البهائيين، الأمر الذي يضطرهم إلى إجراء عقدين معا: الأول عقد زواج بهائي داخلي يجرى في البحرين، والآخر عقد زواج مدني يُجرى في الخارج في البلدان التي تقرّ الزواج المدني. وهذا العقد الأخير هو الذي تقبل الدولة توثيقه رسميا.
قد تحسم الدولة هذا الإشكال بقبول توثيق عقد الزواج البهائي، إلا هذا لا يعني أن الدولة قادرة على حلّ معضلة الاعتراف بكل مستوياتها؛ لأنه سيكون علينا أن نتساءل عن حدود الملل التي ستعترف بها الدولة؟ وما إذا كان على الدولة أن تعترف بالتيار العام في الملة أم بالانشقاقات والتنوعات الداخلية فيها؟ ومن يحدد، على سبيل المثال، قائمة الرموز والشخصيات التي تكون «موضع تمجيد أو تقديس لدى أهل ملة» من الملل، والذي يستحق من أهانها علنا عقوبة الحبس أو الغرامة المالية؟ هل التيار العام في الملة أم التيارات المنشقة؟ ثم إن معضلة الاعتراف الكبرى التي تواجه الدولة لا تكمن في تعاملها مع الأديان والملل الأخرى التي ثبت أنها تتمتع بحرية دينية مقبولة، بل في طريقة إدارتها لسياسات الاعتراف بين الطائفتين الأساسيتين في البلاد (الشيعة والسنة)، وفي طريقة إدارتها للتنازع بينهما على مجالها العام، وعلى قضية التمثيل السياسي لكل جماعة.
ومن حيث البدء، فإن مبدأ المواطنة المتساوية يفرض على الدولة أن تقدم لجميع مواطنيها معاملة متساوية، وألا تمارس التمييز بينهم في الواجبات والحقوق ومن بينها الحقوق الثقافية. وفي دولة متعددة الأديان، فإن الاعتراف بدين معين على أنه الدين الرسمي لها، يعتبر إخلالا بمبدأ المواطنة المتساوية. وحتى لو كان 99 في المئة من سكان الدولة يدينون بهذا الدين الرسمي، فإن على الدولة ألا تنسى أن من حق الـ1 في المئة من السكان أن يشعروا، كذلك، بأنهم مواطنون كاملو المواطنة، وأن الدولة دولتهم، وأنهم ليسوا طارئين، ولا متطفلين على الدولة، ولا ملحقين بأتباع الدين الرسمي. جون ستيوارت ميل ذهب إلى أبعد من ذلك حين طالب الجنس البشري باحترام الرأي المختلف حتى لو كان يعتنقه شخص واحد فقط، يقول: «لو تبنّى الجنس البشري بأسره، باستثناء شخص واحد، رأيا ما، وكان للشخص الواحد رأي مخالف، فإنه لا يحق للجنس البشري أن يقمع ذلك الشخص أكثر مما يحق له هو، لو استطاع، أن يقمع الجنس البشري» (عن الفردية، ضمن كتاب: الفردية والمجتمع المدني، ص93-94).
ثم إن اعتراف الدولة بدين الغالبية كدين رسمي لها، لا يعني أن مطالب هذه الغالبية بالاعتراف ستنتهي؛ لأن الدين، بحد ذاته، ينقسم إلى مذاهب، والمذاهب إلى اجتهادات مختلفة، ولكل مذهب أتباع وجماعات، الأمر الذي يعني أن على الدولة أن تعترف لا بدين رسمي فحسب، بل بمذهب رسمي داخل هذا الدين، وربما باجتهاد محدد داخل هذا المذهب. وفي حالة البحرين، فإن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، ويدين به 99 في المئة من المواطنين، إلا أن الإسلام ينقسم، في البلاد، إلى مذهبين كبيرين لكل منهما اجتهاداته الفقهية والكلامية وقائمة رموزه وشخصياته «موضع التمجيد والتقديس» الخاصة. وعلى الدولة أن تحسم أمرها في هذه القضية؛ لأنها ستكون مضطرة، في بعض المواقف، إلى اصطفاء اجتهاد مذهبي معيّن حتى في أهون الأمور وأصغرها. فلو أن الدولة قررت، كما هو حاصل الآن، إعطاء عطلة رسمية في يوم المولد النبوي، فإن عليها أن تحدد هذا اليوم بدقة، فهل سيكون في 12 ربيع الأول كما في الرواية الأشهر لدى السنة، أم في 17 ربيع الأول كما في الرواية الأشهر لدى الشيعة؟!
عمدت الدولة، منذ العشرينيات من القرن العشرين، إلى إعطاء كل جماعة استقلالا نسبيا في إدارة شئونها الدينية الخاصة، فأنشأت محكمة جعفرية إلى جنب محكمة سنية، وإدارة للأوقاف الجعفرية إلى جنب إدارة للأوقاف السنية. وقد لعب هذا النظام التوافقي دورا مهما في تأمين التوازن بين الجماعتين، إلا أن هذا النظام يتعرّض، بين فترة وأخرى، لموجات من الجدل تتركّز معظمها حول حقيقة المذهب الرسمي المعتمد في الدولة وخاصة في صياغة مناهج التربية الإسلامية في المدارس الحكومية، وفي صيغة الأذان المعتمدة في أجهزة الإعلام الرسمية، وفي روزنامة المناسبات الدينية الرسمية. ولا يبدو أن هذا الجدل سينتهي طالما استمر الوضع على ما هو عليه. بل إن كل المؤشرات ترشّح استمراره وخصوصا أن الجدل بين رجال الدين الشيعة والدولة قد وصل إلى صلب النظام التوافقي الذي تأسست ركيزتاه الأساسيتان في العشرينيات، وأقصد بذلك المحكمة الجعفرية والجدل الدائر، منذ سنوات، بشأن «قانون أحكام الأسرة»، وإدارة الأوقاف الجعفرية والجدل الذي أثاره قرار وزير العدل رقم (41) لسنة 2008 بشأن الإجراءات التنظيمية لإنشاء دور العبادة وملحقاتها، والذي رفضته إدارة الأوقاف الجعفرية السابقة، وفهمه رجال الدين الشيعة على أنه «قرار طائفي خطير» غرضه التضييق على «الطائفة» في بناء مساجدها ومآتمها. وللحديث صلة في الأسبوع المقبل
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2363 - الإثنين 23 فبراير 2009م الموافق 27 صفر 1430هـ