بين الحين والآخر تطفو على السطح الإعلامي العربي «قضية المرأة العربية»، ويثار سجال عاصف بين أطراف عديدة، بين تيار مؤيد لما أصبح متعارف عليه في الأدبيات العربية باسم «حقوق المرأة»، وبين آخر يحاول، أن يكبح جماح الدعوات المنادية بتفعيل تلك الحقوق وإعطاء المرأة ما تستحقه من مكانة في المجتمع الذي تنتمي إليه.
الملاحظ على تلك الحوارات أنها، وبدلا من التركيز على لب المسألة، وتسليط الأضواء على جوهرها، نجدها تنحرف كي تناقش قضايا ثانوية سطحية، ربما تكون هي، في حقيقة الأمر، غير واردة في سلم أولويات المرأة ولا تحظى باهتمامها.
ومؤخرا شاركت مجموعة من النساء البحرينيات في أحد المؤتمرات التي عقدت في العاصمة الماليزية كوالالمبور. وصادف لكاتب هذا العمود أن التقى بإحداهن. كانت معجبة بالأوراق التي ناقشها المؤتمر، وكذلك الأمر بالنسبة للأجواء التي سادت نقاشاته. جمع المؤتمر، كما روته تلك السيدة، باقة متنوعة من مختلف الاتجاهات المهتمة بشئون المرأة، كان بينها الإسلامي، والبوذي، بل وحتى اليهودي. الكل كان يبحث، وبشكل جاد عن السبل التي من شأنها أن تنصف المرأة، لكن ليس في القضايا الهامشية والجانبية، بل في تلك الجوهرية التي تعيد للمرأة، بمن فيها المرأة العربية، الكثير من حقوقها الطبيعية التي سلبتها منها قوى كثيرة، خارجية فرضتها القوى الاستعمارية التي اجتاحت المنطقة على امتداد القرون الأربعة التي أعقبت الثورة الصناعية في أوروبا، وداخلية، تدفعها في ذلك مصالحها الأنانية الذاتية من جهة، والتكلس الذهني الذي سيطر على تفكيرها من جهة ثانية.
شد ذلك انتباهي إلى الكثير من الموضوعات السطحية التي يمكن أن نوردها، والتي نالت اهتمام الكثير من الأوساط، ذات العلاقة بقضايا المرأة. على سبيل المثال لا الحصر، ما تزال عالقة في أذهان البعض منا تلك المعارك التي اندلعت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وما تزال تندلع بين فترة وأخرى، حول الزي الذي ينبغي أن ترتديه المرأة، واعتبار ذلك أحد المقاييس للحكم على سوية سلوكها واستقامة شخصيتها. وينتهي الأمر إلى نزيف لكل الطاقات التي لم يعد في وسعها الالتفات لما هو أهم من ذلك بكثير من مستوى حق المرأة امتلاك جسدها بدلا من أن يكون ذلك ملكا مطلقا للأب أو الأخ الأصغر، الذي بوسعه أن يبيعه لمن يعتقد هو الأنسب من دون سائر الآخرين كي يصبح الزوج الملائم لكريمته أو شقيقته.
تفسير هذه المسألة يتطلب فهم الأسباب الكامنة وراءها، والتي هي كثيرة ومن بين أهمها:
1. مصادر التشريع، حيث لا يزال العالم الإسلامي، وفي القلب منه، خاضع لمراكز للتشريع الإسلامي، وهي ليست الأكثر تقدما بالمفهوم التاريخي. وبالمقابل، تطورت في مراكز دينية أخرى ذات ذهنية إسلامية أكثر تنورا وأكثر قدرة على التفاعل مع التطورات التي شهدتها المجتمعات البشرية. فمن الطبيعي أن يكون مركز إفتاء في مدينة أوروبية، أكثر قدرة على فهم متطلبات العصر، في علاقتها مع حقوق المرأة، من مركز إسلامي مقره جبال أفغانستان، أو هضاب النيبال.
2. القوى المحافظة، التي تدافع عن مصالحها، المادية قبل المعنوية. فوقوف هذه القوى أمام أي تغيير لصالح المرأة، مصدره، وهي على وعي تام بذلك، خوف هذه القوى من فقدان إحدى قنوات تحكمها في قطاع معين في المجتمع. هذه القوى تتستر بالدين أحيانا، وتتدثر بالقيم والتقاليد أحيانا أخرى. لكنها في حقيقة الأمر تدافع عن تلك المصالح التي تدر عليها أرباحا طائلة من جهة، وتعزز من مكانتها الاجتماعية من جهة أخرى.
3. النزعات الأنانية، التي ما تزال منغرسة عميقا في نفوس نسبة عالية من الرجال العرب، والذين يجدون في تلك القيم، ملاذا يبرر لهم تلك الممارسات الأنانية التي تصادر نسبة عالية من حقوق المرأة، دع عنك الحديث عن مساواة حقيقية مع ذلك الصنف من الرجال. هذه النزعة الأنانية تتمظهر في سلوكيات متنوعة تبدأ بالعلاقات المنزلية، وتعرج على الروابط المهنية، ولا تقف عند الحقوق السياسية.
4. التربية المنزلية، والتي تساهم بعض النساء بقسط وافر منها، حيث تزرع في نفسية الأبناء الذكور نزعة التسلط والفوقية، وبالقدر ذاته، وعلى ذات المستوى، تغرس في أذهان البنات الإناث، الشعور بالرضوخ والدونية. يتكامل طرفا المعادلة، وينجحا، شئنا أم أبينا، في تشييد نظام تسلطي ذكوري يكرس، دون أي مبرر فيزيائي، أو اجتماعي، سيادة الرجل وخنوع المرأة.
5. المناهج المدرسية، التي تتلقى الأجيال في مراحل مبكرة من حياتهم، وترغمهم على رضع مناهج تربوية، شاركت فيها تلك القوى المحافظة، كي تسري في عروقهم، وترسخ في أذهانهم، مفاهيم خاطئة بشأن المرأة، تتطور لاحقا كي تتحول هي الأخرى إلى نظام متكامل، يسلب المرأة الكثير من حقوقها التي تحتاجها، وتعطي للرجل عناصر قوة يستخدمها على نحو خاطئ.
6. المؤسسات الإعلامية، وهي من أكثر قنوات التأثير، في عصرنا هذا، نظرا لما يقع تحت تصرفها من إمكانات من جهة، وللقدرات التي وضعتها بتصرفها ثورة الاتصالات والمعلومات من جهة ثانية، ومن يتابع برامج نسبة عالية مما تبثه تلك المؤسسات، بوسعه أن يقيس مستوى الدمار الذهني والمادي الذي سببته تلك المؤسسات عندما يتعلق الأمر بالحقوق الجوهرية التي ينبغي أن تتمتع به المرأة العربية.
إننا اليوم، وإذ تقف المنطقة العربية أمام الكثير من البرامج التي تخاطب المرأة، وإن كان للمدافعين عن الحقوق الجوهرية للمرأة أن ينبروا للدفاع عن تلك الحقوق، فأول خطواتهم على هذا الطريق أن يضعوا القائمة بالأولويات التي ينبغي أن تتصدرها الحقوق الجوهرية المسلوبة من المرأة، بدلا من اللهث وراء مطالب، قد تبدو مهمة في المظهر، لكنها ليست ذات أهمية عند الحديث عن الجوهر.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2360 - الجمعة 20 فبراير 2009م الموافق 24 صفر 1430هـ