في الوقت الذي تصعد فيه الولايات المتحدة الاميركية لهجتها تجاه إيران، واضعة إياها في موقع الدفاع والتبرير، يحاول الاتحاد الاوروبي، في المقابل مد جسور ثابتة مع طهران، مشجعا إياها على السير قدما في طريق الاصلاحات السياسية والاقتصادية. ما يسهل توقيع اتفاق للتبادل التجاري الحر في الأشهر القليلة المقبلة، الامر الذي سينعكس ايجابا وبشكل حتمي على العلاقات بين الطرفين.
وتمثل الزيارة التي قام بها الاسبوع الماضي، وزير الخارجية الفرنسي دمينيك دوفيلبان، للعاصمة الايرانية في إطار جولته الشرق - اوسطية، ولقاءاته من الرئيس محمد خاتمي، ورئيس مصلحة تشخيص النظام هاشمي رفسنجاني، ونظيره كمال خرازي، التي تمخضت عنها نتائج فورية في طليعتها «الهدية» بالافراج عن المسجونين من الايرانيين اليهود، جزءا من الاستراتيجية الاوروبية المستقبلية في المنطقة.
يتبع الاتحاد الاوروبي منذ سنوات - وتحديدا بعد فرض واشنطن قانون «داماثو» الذي تمنع بموجبه الشركات الغربية الكبرى من الاشتثمار في إيران، خصوصا في قطاع الهيدروكربورات؟ وأخيرا، بعد ادخالها ضمن دول «محور الشر» من قبل الرئيس بوش وإدارته الجمهورية - سياسة راديكالية مختلفة عن تلك التي تنتهجها هذه الأخيرة. ويتعلق الامر بالدرجة الاولى بالتركيز على المفاوضات الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق تجارة وتعاون مع جمهورية الملالي. ويتضمن هذا الاتفاق بالاضافة إلى الجانب الاقتصادي، شقا سياسيا مبنيا على إعادة النظر في مسألة الحريات الديمقراطية وحقوق الانسان. هذا الجانب بدأت السلطة في إيران اظهار بعض النوايا الايجابية حياله، وذلك على رغم عدم حدوث تقدم عملي يذكر في هذا المجال حتى الآن. مع هذا التردد، سيستمر الاتحاد الاوروبي بخطواته الانفتاحية على جميع المستويات تجاه الحكم في إيران باتجاهيه، الاصلاحي والمحافظ، مبديا تفهما لهذه العملية الانتقالية على صعيد النظام، مراهنا بذلك على عامل الوقت والظروف الذاتية الداخلية، والموضوعية الاقليمية.
في هذا السياق، يشير احد كبار مسئولي المجموعة الاوروبية إلى ان وجود القوات الاميركية اليوم على حدود هذا البلد وما تمثله من ازعاج يمكن ان يصل إلى حد التهديد الدائم، ما من شأنه ان يدفع بالنظام البراغماتي الايراني إلى قبول ما كان يرفضه في السنوات الماضية، لناحية الانفتاح السياسي، كون الانفتاح الاقتصادي لم يشكل بحد ذاته عقبة اساسية في اي وقت من الاوقات. الدليل على ذلك، تضاعف وجود كبريات الشركات الاوروبية في ايران، وخصوصا في الاعوام الثلاثة المنصرمة ودخولها بسهولة إلى قطاعات اساسية من بينها مجال الغاز وصناعة البتروكيماويات. ويعزو المسئول الاوروبي عينه هذا الاهتمام المتزايد بالفرص التي توفرها السوق الايرانية لسببين: الاول، عدم ترك الفراغ امام الشركات التي عززت مواقعها بشكل ملفت في المرحلة الاخيرة عبر الاتفاقات العسكرية من جهة، والتصنيعية، سيما في التطور التكنولوجي المتعلق بالصناعة النووية ذات الاغراض السلمية في محطة بوشهر، من جهة اخرى. والثاني، استباق الوقت لاحتلال مواقع يمكن ان تنافسها عليها لاحقا الشركات الاميركية في حال حصول تطبيع للعلاقات.
التخصيص حجز الزاوية
بغض النظر عن كون الاتحاد الاوروبي بات الآن الشريك التجاري الابرز لايران، إلا انه هنالك ايضا خلفية حقيقية لثلاثي المصالح بين الطرفين. وتحتاج طهران إلى تحرير اقتصادها والتقليل من اعتمادها على النفط والغاز.
لذلك فمن غير الممكن تحقيق هذا الانجاز الا اذا عدلت الدولة من تموضعها داخل دائرة التقاسم العالمي للعمل، وسعيها الدؤوب إلى زيادة صادراتها من المنتجات المصنفة. لذلك فإن توقيع اتفاق للتبادل التجاري الحر مع الاتحاد الاوروبي يمكن ان يساهم في هذا التطور المنشود. من جهتها، تحتاج المجموعة الاوروبية إلى إرساء علاقات اقتصادية صلبة مع أحد أهم منتجي الهيدروكربورات في المنطقة، والذي يمتلك في آن معا، سوقا داخلية استيعابية على قدر من التوسع. على اية حال، فلكي يوضع اتفاق كهذا موضع التنفيذ، ينبغي لإيران تطبيق إصلاحات اساسية وبسرعة. فتحرير المبادلات يتطلب تحسين اداء صناعتها التي تشكو من عدة ثغرات من بينها: معضلة المناسبة نظرا إلى البينة الصناعية التي تأسست في اعوام الستينات لتحل فقط محل الواردات من دون الخوض في ظهور المضاعفة من حجم الصادرات. كذلك عدم الفاعلية الناجمة عن التأمينات التي اعتمدت بعد الثورة. وايضا قلة الاستثمارات في قطاعات فاعلة... الخ. ويرى الاقتصاديون الاوروبيون والايرانيون على السواء أن تحسين القدرة على المنافسة تشكل العائق الابرز في وجه عمليات التخصيص التي دعت اليها حكومة الاصلاحيين.
ويقترح الخبراء للخروج من هذا المأزق اجراء عمليات تخصيص على مرحلتين، على ان تشمل اولا القطاعات ذات القدرات التصديرية مثل: الصناعات الغذائية، الزراعية، الجلد، النسيج ومواد البناء. اما بيع القطاعات الاخرى للخواص، فإن ذلك يجب ان يتم بصورة تدريجية بعد اجراء عمليات بنيوية كيلا تحدث خضات اجتماعية عبر اضطرار الدولة إلى للجوء إلى التسريحات العمالية بصورة جماعية، خصوصا في ظل معدل بطالة رسمي يقارب الـ 15 في المئة، وغير رسمي، اعلنته مؤسسات مختصة تعمل لحساب المؤسسات المالية العالمية ويقدر بـ 21 في المئة. اما المسألة الاكثر تعقيدا في عملية التخصيص، فهي التي تفترض حل مشكلة اللوائح الداخلية المتعلقة بالنظام الاساسي للمؤسسات الدينية التي تدير عدة شركات وحتى قطاعات فاعلة في الاقتصاد الايراني. من هنا يمكن القول إن اجراء بهذا الحجم ينبع في نهاية المطاف من قرار سياسي على أعلى مستويات السلطة في إيران ولا يبدو - في الوضع الحالي - أن اي طرف من الاطراف المشاركة، محافظة كانت ام اصلاحية، قادرة على القيام بهذه الخطوة الليبرالية يبقى السؤال: هل يمكن انشاء قطاع خاص حقيقي اذا تركت جوانب بكاملها في المجال الصناعي تمتلك ميزات تنافسية هائلة تجعلها في موقع متقدم سلفا، ما يمنع لعبة السوق... وتجدر الاشارة، هنا إلى ان الامتيازات المعطاة لهذه الجهات، وتحديدا المؤسسات الدينية، تتراوح بين الاعفاء من دفع الضرائب والرسوم، مرورا بالتسهيلات المصرفية الآلية والتي تحظي بقرارات رسمية وبفوائد تفضيلية إلى ما هنالك من وسائل تشجيعه اخرى.
ومن العناصر المؤثرة الاخرى لنجاح سياسية التشخيص، قدرة السلطات او نيتها في إدخال الرسائل الاجنبية وتملك ايران امكانات هائلة في هذا المجال لم تتم الاستفادة منها حتى الآن. لذلك فهناك الكثير مما يجب عمله لجذب الاستثمارات الخارجية المباشرة، علما أن اعتماد قانون جديد للاستثمارات ليس كافيا لتحفيز المستثمرين. فالمنافسة الاقلمية شديدة، وتعززت بفضل قيام دول الجوار الخليجية باعداد فضاءات قانونية مشجعة للغاية للاستثمار الخارجي المباشر، ومن بين المشكلات الاخرى مسألة سعر صرف العملة. في هذا الاطار سمحت العائدات من الهيدروكربورات باستقرار سعر الصرف الريال الايراني منذ ثلاث سنوات. مع ذلك وعلى هذا المستوى تشهد الصناعة الايرانية التي ليست بحاجة لذلك، انهيارا واضحا. فانشاء منطقة للتبادل التجاري الحر مع الاتحاد الاوروبي من شأنه اذن ان يدفع باتجاه سياسية خفض للعملة ما يسهل عملية التنافس. من هنا يتوجب، وبشكل مواز، على السياسة النقدية وتطبيق الموازنة، توفير المحافظة على معدل تضخم مسيطر عليه.
ضرورة الاصلاحات
ويعتبر المحللون الماليون الاوروبيون أن قضية تطبيق الضرائب جوهرية لا يجوز الالتفاف عليها لاي سبب من الاسباب، كما يرى هؤلاء أن تحسين المنافسة في المجال الصناعي لابد ان يؤدي إلى ارتفاع النفقات في الموازنة. ويتوجب على الدولة ان تصرف المبالغ الضرورية لتعزيز البنية التحتية من نقل واتصالات وطرقات... كذلك تسهيل الصادرات ومساعدة القطاع الخاص على رفع مستوياته كي يتمكن من المنافسة وخلق عمل جديد، من شأنها خفض معدلات البطالة الزاحفة، لكن تحرير التجارة الخارجية مع الاتحاد الاوروبي يعني ايضا خفض الرسوم على الواردات الآتية من الدول الاوروبية والتي تمثل حاليا 23 في المئة من البضائع المستوردة لايران. وتشير المعلومات في هذا الصدد إلى أن هذه الرسوم تجذب 30 في المئة من العائدات غير النفطية للحكومة. وتتوقع السلطات الايرانية زيادات في حجم المنتجات الواردة من اوروبا في الاشهر القليلة المقبلة، دليلا على نمو العلاقات بين الطرفين وحسن نية من قبل ايران التي تبدي أكثر فأكثر حرصا على رفع مستواها من التعاون والصداقة الى نوع من العلاقات العضوية تجاريا وسياسيا.
فالاصلاحات التي شرعت الحكومة الايرانية باعتمادها فترة يجب ان تستمر الوتيرة نفسها بهدف تطوير النظام الضريبي وادارة أفضل للنفقات. ويفترض لنجاح هذه المبادرة ايضا اضفاء حال من الحزم الاكبر والشفافية لناحية استخدام العائدات النفطية. هنا، تشكك الدوائر الاوروبية بصحة المعلومات المتعلقة بحجم هذه المداخيل كما تنتقد اسلوب صرف اجزاء كبيرة منها وتعتبره غير واضح الاتجاهات. لكن هذه الدوائر لا تذهب ابعد من ذلك حرصا على عدم التأثير سلبا في مجريات العلاقات الذاهبة نحو التطور السريع. كما وتخشى ان يفسر الانتقاد على أنه تدخل في الشئون الداخلية لايران. فالسلطات هنا شديدة الحساسية ازاء هذا الجانب. وتظهر الدراسات في هذا المجال، أن ادارة جيدة للعائدات النفطية تبقى اكثر فاعلية من الاجراءات المتخذة وفقا لكل خطوة مثل انشاء صندوق الاستقرار العائدات النفطية الذي من المفترض ان يلعب دورا في التوازن عندما تنخفض اسعار الهيدروكربورات علما بأن هذا الصندوق الذي تم انشاؤه حديثا لم يمر بأي اختبار من هذا النوع كون الاسعار لاتزال ضمن مستوياتها منذ فترة.
ختاما، يرى الايرانيون أن اتفاقا للتبادل التجاري الحر مع الاتحاد الاوروبي لابد أن يساعد بشكل متواز على انجاح الاصلاحات الداخلية التي بات لا غنى عنها. وربما ان الروابط قوية في اقتصاد ريعي كالاقتصاد الايراني بين الدوائر السياسية والاقتصادية التي تتحكم في السلطات، فإن الاصلاحات يمكن ان تدعم حركة الانفتاح المتوقعة من خلال اعطاء مهمات إضافية وثابتة لادارة النظام الاقتصادي من قبل طبقة وسطي ايرانية منفتحة وكفوءة. فإن الهدف من اطلاق عملية حقيقية لتحرير الاقتصاد الوطني تبقى صعبة لكنها ضرورية. لذلك فإن الشريكين الاوروبي والايراني لن يربحا شيئا في المدى المتوسط من وراء اتفاق لا يهدف سوى إلى فتح السوق الايرانية امام الشركات الاوروبية. انطلاقا من هنا، يرى المحللون السياسيون أن ما يجمع الفريقين اكثر بكثير مما يفرق بينهما. كما ان اوروبا حريصة كل الحرص على أن تعوض مواقع اقدامها التي خسرتها في العراق لصالح اميركا. ولا تريد، بأية صورة من الصور، ان تكرر خطأها العراقي، مؤكدة أنها ستقف بقوة إلى جانب طهران في حال تعرضت لتهديدات جدية تراها اوروبا غير مبررة. لذلك، نصح دوفيلبان الايرانيين في زيارته الاخيرة على عدم اعطاء اي مبرر مهما كان صغيرا لواشنطن لكي تخلق المتاعب وتضع ايران في «خانة اليك» على الدوام تمهيدا لاستنزاف قدراتها لكن على طهران ان تثبت من جهتها أن علاقاتها باتت عضوية مع الاتحاد الاوربي وبأنها شريك فعلي لا ظرفي
العدد 236 - الثلثاء 29 أبريل 2003م الموافق 26 صفر 1424هـ